كنت أنوى الكتابة عن "الثانى" فى قائمة تحسين صورة الرئيس التونسى الهارب زين العابدين بن على.. السناتور المصرى الشهير.. القائمة ضمنت تدفق أموال بصفة مستمرة إلى جيوب رؤساء تحرير وصحفيين مصريين.. كما ضمنت لهم منحا وهدايا ورحلات للسياحة والإقامة حول العالم.. لكننى وجدت فى المشهد الذى سأرويه لكم أولوية آنية.. يمكن وفقها تأجيل سلسلة الكتابة عن أفراد تلك القائمة السوداء. المشهد الأول: كنا مجموعة يصل عددها إلى 25 شخصا.. يحملنا أتوبيس ضخم مغادرين مدينة الغردقة إلى القاهرة.. كان الصمت أقرب لوصف المشهد العام داخل الأتوبيس، إلا من أغانى وطنية تنساب من المذياع، وتتدفق إلى كل منا عبر سماعة صغيرة تعلو كرسيه. عند بوابات مغادرة المدينة.. توقف الأتوبيس وصعد أحد أفراد الشرطة العسكرية لتفحص هويات الراكبين، بمجرد توقف الأتوبيس استعد كل منا بإخراج بطاقته الشخصية أو جواز سفره ذى اللون الأخضر المميز، وفى منتصف الحافلة تقريبا توقف فرد الشرط العسكرية مصطحبا معه إلى خارج الحافلة رجلاً فى الستين من عمره، ذا شعر أبيض، وجواز سفر أحمر اللون.. تبادلنا جميعا النظرات الصامتة، ثم عاد كل منا إلى وضعيته الأولى شاخصا أمامه فى المطلق.. لحظات وعاد الرجل ذو الشعر الأبيض ممسكا جواز سفره الأحمر باعتزاز واضح، وهو يلقى نظرة سريعة على كل منا فى طريق عودته إلى مقعده فى منتصف الحافلة. المشهد الثانى: كنا قد صعدنا للتو بعد استراحة قصيرة فى إحدى الكافيتيريات المتواضعة على الطريق، بدأت شاشات صغيرة موزعة على الحافلة فى عرض فيلم ردىء لمطرب الجيل، كما يحلو له أن يلقب نفسه، وحقيقة لا أعرف أى جيل يقصد، أسندت رأسى إلى المقعد شاخصة فى ظلمة الطريق الطويل أمامى، ليأتينى كما الجميع صوت مرتفع لمحادثة تليفونية، الأستاذ الصحفى فلان؟.. أنا فلان كنا قد التقينا من قبل.. "ويبدو أن الصحفى تذكر الرجل".. فعاد يقول: أريد أن نلتقى على غداء فى مطعم كذا ونتحدث.. أريد أن نبحث عن جثة رضا هلال، ونفتح التحقيق فى ذلك.. "وللذين لا يعرفون فرضا هلال كان صحفيا متميزا وكان نائبا لمدير تحرير الأهرام قبل اختفائه منذ أكثر من 5 سنوات".. ثم استرسل الرجل قائلا: كما أريد أن نعمل على أن يقاضى د.أيمن نور الحكومة المصرية ليحصل على تعويض ضخم بعد القضية التى تم تلفيقها له وسجن بسببها، ويمكن أن يتم رفع تلك القضية فى الخارج أيضا، أنهى الرجل المكالمة وأجرى أخرى.. وبدأ التحدث عن الشعب المصرى مع الطرف الآخر فى مكالمته بصوت مرتفع وبطريقة مستفزة.. وجدت نفسى لا إراديا إدير وجهى باتجاه الجالسين فى الصف المجاور، فالتقت نظراتنا، كنا حانقين، ولم تلبث النظرات أن دارت بين ركاب النصف الأول للحافلة، خليط من الاستياء والحنق والاندهاش، لكنها جميعا خلصت إلى الصمت فى النهاية، ثم العودة إلى ما كان كل منا عليه قبل اختراق صوت الرجل لآذاننا. المشهد الثالث: فجأة اخترقت أذنى بعض العبارات والجمل المتتالية، التى لم أستطع منع نفسى بعدها من الاستدارة للخلف، لرؤية صاحب الصوت، كان نفس الرجل ذو الشعر الأبيض وجواز السفر الأحمر والصوت العالى الذى صدعنا من قبل بأيمن نور واشمئزازه من المصريين.. كان يقول للشاب المجاور له فى المقعد، وكان فى العشرينات من العمر: الجيش المصرى لا يختلف كثيرا عن الشرطة، وهذا وضع خاطئ يجب عدم السكوت عليه، ويدلل الرجل بأنه يملك معلومات عن اعتقال الجيش لشباب مصريين وتعذيبهم فى أماكن شتى من الجمهورية!!.. عندها أدرت رأسى للخلف لمواجهة الرجل، لكنه كان مازال منهمكا فى الحديث للشاب العشرينى، لا يدرك أن جميع من فى النصف الأول للحافلة قد استداروا ناظرين إليه بغضب، كان منهم الشباب والنساء، حتى افتتحت سيدة فى عقدها الخامس، تجلس فى خلفى، حفلة تأديب الرجل صاحب جواز السفر الأحمر.. تلك الحفلة التى اشترك فيها الجميع بلا استثناء!! تلك السيدة محامية فى النقض، عندما بدأت تواجه الرجل قامت بتعريف نفسها، أذكر اسمها الأول فقط، نادية.. الأستاذة نادية التفتت للرجل قائلة: ماذا تقول؟.. فرد بغطرسة شديدة: أقول ما لدى من معلومات.. "وكان كاذبا بالطبع".. فقالت له: ليس لديك معلومات.. لديك أكاذيب تحاول بثها فى أذن شاب فى بداية حياته فى لحظة فاصلة، ليس من حقك أن تتحدث لأنك لست مصريا، فرد الرجل ببجاحة: بل أنا مصرى، قالت له: أنت فخور بجواز سفرك الأحمر، دخلت مصر بجواز سفر سويسرى، ولوحت به بفخر أمامنا جميعا، ليس من حقك أن تتكلم لأنك لا تعرف، سببت المصريين، وتسب الجيش، هذا الجيش هو حمايتنا بالذات الآن، نحن الذين عانينا طوال 30 عاما، ندرك جيدا قيمة الجيش ومكانته، أما أنت فاذهب حيث كنت، أو اصمت كما أى سائح يأتينا.. فبدا الرجل متقوقعا على ذاته وهو يحاول صد ذاك الهجوم الذى ما لبث أن شارك فيه الجميع.. قال: أنا كنت أقول رأيا فقط.. لم أملك نفسى فقلت له: عندما تتحدث عن تعذيب الجيش للمواطنين فهذا ليس رأيا، تحدثت عن رضا هلال، هل تعرف رضا هلال؟.. أنا متأكدة أنك لا تعرفه.. تحدثت عن أيمن نور كبطل قومى.. وأنا أقول لك أنك لا تعرف شيئا.. فخير لك أن تصمت.. قال لى: الصحافة تقول هذه الأشياء.. قلت له: أنا صحفية.. وبالمناسبة رضا هلال زميلى.. وأنا مواطنة مصرية لن أسمح لك أن تقول كلمة للتشكيك فى الجيش المصرى. هنا وبعد أن بوغت الرجل فصمت، تدخل مساعد سائق الأتوبيس للتهدئة، فطالبه الجميع بغلق فيلم مطرب الجيل، والعودة للأغانى الوطنية، عاد الرجل إلى مكانه، وهنا تحدث الشاب الجالس بجوار صاحب جواز السفر الأحمر.. قال: يا أستاذة نادية.. أنا عمرى 22 عاما.. أنا سمعت الرجل.. لكن لدى عقل وإيمان بوطنى.. وإدراك للحظة التى نمر بها.. من أدراك أنى صدقت ما قال؟.. قالت : أنا أخشى على شباب بلدى.. شهداء 25 يناير كانوا من جيرانى وأبناء أصدقائى.. لا أريد لكل صاحب هوى أن يعبث بقولكم.. ابتسم الشاب وقال: يا ست الكل.. لا تخشى شيئا.. لم نعد صغارا. شعرت بالارتياح.. لا سيما أن ذاك المشهد حدث بعد مليونية الجمعة الماضية فى ميدان التحرير.. وفيها ما يتشابه وما حدث فى حافلة الغردقة!!