تحمل القصيدة الأولي في ديوان "باتجاه ليلنا الأصلى" للشاعر كريم عبدالسلام نقداً ذاتياً واسع المجال، يشمل الدور المتعالي للإبداع عندما يقتصر على عمليات ذهنية جافة، يكتفي معها الإبداع بغواية التشريح من دون الانغماس في الحياة الحقيقية، وينحاز الشاعر في قصيدته الناقدة إلي أن الترف الذهني هو نفسه المسئول عن الانفصال بين الأداء الإبداعي وبين الحياة الأصلية التي انسحبت بدورها لتقف في الخلف " دروس التشريح، الكحول، الدبابيس، تذكرناها، إلا أننا اكتفينا بتقسيم كل نملة لاثنتين تتحركان قصيدة الصيف " ولرغبة في تجاوز هذ الأداء تسعي قصائد الديوان نحو الليل الأصلي، فتتناول العالم الذي اصطلحنا علي تسمية خاطئة له: "المهمشون"، ومن خلال تحويل هذا العالم إلى عالم شعري يحاول الشاعر بدوره أن يثبت قوائم خاصة بقصيدته. يختار الشعر لنفسه أن يلعب دور صندوق الدنيا وهي حيل بدائية نابعة من قلب هذا العالم، ومن الموقف الإبداعي الذي تحرك منه، لكنه لا يصرح بها حتى يملأها بالتقنيات البصرية التي رسختها القصيدة العربية الحديثة بل الكتابة الراهنة بمجملها من الأدوات التشكيلية أو السينمائية، وخصوصاً أساليب المونتاج. واختيار الشاعر مخادعة تجمع بين البدائية التي تخص عالمه وتسمح أيضاً بتمرير الضوء إلى المناطق المعتمة، وعدم تصريحه بوسيلته لا يمنع القارئ من الإحساس بها، خصوصاً عندما يستكمل وصف المشاهد بأن يروي مشاعر شخصياته، وقد استقى عناوين بعض القصائد على نمط العناوين في الحكي الشعبي "صياد الكلاب الضالة وأغنيته، كلام البقال الذي فكر في حياته، بهجة الألفاظ"، ويمنع الشاعر نفسه من التصريح الكامل بأن وسيلته تنتمي إلى عالم لا يخضع للقاعدة الحديثة المعروفة بفضح التقنيات. يبدأ الشاعر حكاياته من النهار، والضوء يغمر النساء اللاتي ينشرن الملابس المغسولة: " الماء ينخدع كل مرة يغسلن فيها يتركن له أصابعهن، حتى يظن أنهن تركنها للأبد وإذ يخرج من سكونه يسحبنها وقد فرغن من الغسيل " خدعة الكر والفر هذه تتكرر في معظم القصائد، ويتم تنفيذها بوصف الحركة الداخلية لما هو ساكن، والعكس أيضا، وهنا يلتقطها الشاعر من مشهد أنثوي فيه من الغواية ما يكشف جمال اللعبة، ووفرة الطاقة في هذا العالم، من دون أن ينساق وراء الغواية بلا معنى أو بما يلوث نظافة اللعبة التي تتم في الضوء. وعندما يمر هو بنفسه الضوء إلى زاوية معتمة من حياة البيوت البسيطة يصبح اللعب أكثر وضوحاً، ففي قصيدة "الفتاة على السطح" أربعة شبان يصعدون بفتاة على سلم البيت متجهين إلى السطح الشبقي الضوء يمر معهم إلى تجاويف المشاعر التي تشكل العلاقات بينهم وبين الجيران والعلاقة بالمكان. في قصيدة "الموت" وكذلك في قصيدة "الفرح" التي تليها مباشرة يستعرض كريم عبدالسلام بعدسته الثابتة على الوجوه فوران الحركة الداخلية لما تبطنه ومرورها في قنوات معينة حددتها طبيعة البيئة الشعبية في سرادق العزاء، حيث يجلس أخو القتيل تسجل العدسة رد الفعل تجاه غدر القتل: " لو أتى الموت الآن، سيقبضون عليه من ياقته "مجرجرين إياه على الحصى وأمام الجموع المحتشدة، يسكبون ماء النار على وجهه ثم يشقون عضلاته ويحشونها بالملح ولو صمت نهائياً الموت يطعنون مؤخرته" ويتمادى الشاعر فى الخيالات التي تعكسها وجوه الأخوة في السرادق فتأتي الشرطة لتحقق في ما فعلوه بالموت، بينما هم يستسلمون لها دون خوف ما داموا ثأروا من غدر الموت. بينما في الفرح يتم تدجين الأطفال بأن يشاركوا في إعداد المسرح والزينات بأنواعها، أما الشباب فيبدأون رحلة الصيد، وفق اختيار الفتيات الجالسات في الشرفة: " كل شاب يعلم أن البنت تريد برهانا فيشرع المطواة ويرقص متطلعاً للشرفات في حيرة أين فريستي وسط الروائح؟" العالم هنا من خلال اتجاه الشاعر نحو الليل الأصلي والحياة الخلفية، يخلو من الدهشة ويمتلئ بالاحتفال، حيث يبدو الانسجام أصيلاً وتلقائياً على رغم تصارع الغرائز ومراوغة العلاقات الحسية، حتى في القصيدة التي تصف المعارك بين جماعات الشبان أو ملوك الليل، كما وصفهم يظهر مدى تقدير الشاعر للدوافع التي تحكم هذه العلاقات والتصرفات الدموية بل أنه يركز على أصالة انتمائها للتناقضات الإنسانية: "يترك أحدهم ثغرة ينفذ النصل منها لجسمه فيكسب التعاطف الذي يحتاجه، اختار أن يرى تأثير دمه على آخرين يحرصون على حفظ دمائهم بعيداً عن أقصى أجسادهم".