نظر إلى وجهى فى المرآة تأتينى صورتى مشوشة بلا ملامح حقيقية أبحث داخل ذاكرتى عن البداية منذ متى وأنا بلا قلب؟ يتسرب ضميرى من الأعماق يزحف ويزحف ليعتلى رأسى يمزقها يطردها خارج جسدى الخرب. بالأمس تركتنى زوجتى لن أراها مرة أخرى.. لن أحتمى بطهارتها فهى الشىء الوحيد البرىء فى عمرى من أجلها قررت أن أضع رقبتى تحت المقصلة. عشر سنوات مرت على قبل أن أعرفها لا هم لى إلا جمع المال مهما كان مصدره. طعم الفقر مر فى الحلق لا مثيل لمرارته، من جربه يتمنى أن تنسلخ روحه من جسده ولا يعود.. هل جربته؟ أحلامى كانت بسيطة حنونة لا تتجاوز الخطوط الحمراء لكنها توحشت عندما تم اصطياد تلك الأحلام بطعم يفتح الشهية لكل شىء. قابلت إبراهيم فى محطة مترو الأنفاق سحبتنى كلماته الرقيقة إلى بساط وردى سيمنحنى فرصة عمل مبهرة أخيراً شعرت بقلبى يخفق شكراً لله. موعدنا فى قهوة وسط البلد سلمته حواسى يقلبها، يسيطر عليها، يدس ما يراه صالحاً لكى أتحول إلى إنسان طوع يديه، لا أتكلم إلا بلسانه.. لا أضحك إلا عندما تتحرك شفتاه للابتسام.. لا أدرى كيف أصبحت هذا الشخص، أمن أجل فرصة عمل؟ تضيع كرامتى تستوى الأشياء قيمها ودنيها.. ظهر إبراهيم فى توقيت لم أفهمه إلا بعد سنوات طويلة فقد جاءنى خطاب تعيينى فى الشهر العقارى براتب شهرى ثمانين جنيهاً كدت أن أمزق خطاب التعيين فيكفينى عملى مع إبراهيم لكنه نهرنى بشدة عن مجرد التفكير إلا فى شىء واحد هو تنفيذ ما يقوله بالحرف وإلا!! أعرف معناها أخاف من كلمة «وإلا».. أعرف عواقبها. تسلمت عملى فى الشهر العقارى مستهتراً بما أعمل.. أحتقر الثمانين جنيهاً رغم أنهم الفلوس الحلال التى امتلكتها فى حياتى. صنفت عملى مع إبراهيم بأننى مساعده أو حتى سكرتيره فهو حتى الآن يطلب منى أعمالا كتابية وأحياناً يحثنى على تسجيل كل كبيرة وصغيرة تحدث فى الحى الذى أسكنه مهما كان تافهاً.. وأحياناً أخرى يأمرنى أن أصور له أشياء بعينها. مثل الكبارى العلوية.. ما يكتب على جدران المدارس أبواب المصالح الحكومية أعمدة النور.. حتى ظننت للوهلة الأولى أن فى نيته إنتاج فيلم تسجيلى عن الأحياء الشعبية. ذات مرة تجرأت وسألته ما الفائدة مما أفعله فلم ينطق لكنه أطلق نظراته التى قلبت كيانى رأسا على عقب، فقررت ألا أسأله مرة أخرى وحمدت ربى وقتها أننى لم أستفزه للدرجة التى تجعلنى أفقد الألف جنيه التى أتسلمها كل شهر. إبراهيم كان قليل الكلام يعرف ما يريد ويصل لمن يريد، فالفلوس لها سحر خاص معها تزول الحواجز.. تذوب المشاعر.. تتغير الانتماءات. طلباته تحولت من البسيطة إلى المثيرة للشبهات.. يجرجرنى حديثه إلى الحكى عما يحدث فى عملى الحكومى فى الشهر العقارى وعقود الملكية خاصة للأجانب والأسماء اللامعة التى تملك أراضى وفيلات.. كنت أقدم له تقارير يومية عن حركة الشهر العقارى اليومية ورغم هواجسى فإن المسكنات الكلامية وتفسيراته الجهنمية تبرد نفسى وتمتص عذاب ضميرى، صحيح أننى لا أشعر بالانتماء لهذا البلد الذى يرتع فيه المزورون والقتلة وذوو النفوذ، وكل أمنيتى السفر إلى أى مكان غير مصر حتى لو كان بلدا تحت الأرض. لم أشعر فى يوم من الأيام بالأغانى الوطنية التى تحرك مشاعر أى إنسان.. كرهت كل من نهبوا حقى فى الحياة.. تعلمت وتخرجت ومازلت لا أفقه الكثير.. كان ما يؤرقنى كيف أقضى على جوعى.. كيف أكون ما أحب وأن أعمل ما أحب.. حتى أحب نفسى وكل من حولى.. وفى لحظة صفاء نادرا ما تجمعنى بإبراهيم تحدثت عن أحلامى بصوت عال.. لكننى اصطدمت بصراحته المفاجئة (ألم تعرف أنك عميل نشيط جداً لنا؟) أنتم؟ أنتم من؟ حاصرتنى ضحكاته المستهزئة واعتبر سذاجتى التمثيلية نكتة ينبغى الضحك عليها.. أسقطت عينى للأرض ولم أسمح لنفسى بالمزايدة فأنا أعرف مع من أعمل.. لم يكن إبراهيم يريد تذكرتى بما أفعل لكنه أراد خدمات أخرى فمثلما تم تجنيدى بسهولة ويسر جاء دورى لتجنيد غيرى نفذت وانغمست فى أسوأ عمل يمكن أن يفعله بشر.. حتى كشفتنى زوجتى.. لم أنكر!! بكيت بين يديها فخيرتنى إما التوبة والتطهر من ذنبى الأكبر، أو أن تتركنى إلى الأبد.. لم أستطع.. تركتنى.. فتاهت حياتى بعدها.. دققت بابه مستأذنا بالدخول.. سيدى أنا جاسوس وجئت اليوم لكى أسلم نفسى.. للمزيد من مقالات الكاتبة اضغط هنا