فى بداية كل إجازة صيفية من كل عام كان يحلو دائما لأبى أن يصطحبنا إلى مسقط رأسه لكى نقضى الأجازة بين الأهل والأقارب، لنستمتع بمنظر الريف بما فيه من خضرة ندية ومياه رقراقة ووجوه سمراء طيبة حسنة، ولهدف تربوى وقيمى يراد منه التواصل ووصل الرحم، كان ذلك فى أواخر الستينيات من القرن الماضى، وقبل دخول الكهرباء وإنشاء التلفاز، كنا نلتف حول جدى الكبير تحت ضوء لمبة "الجاز" الخافت، وهو يقص علينا أحداثا وقصصا جرت فى قريتنا أو فى القرى المجاورة، وكثيرا ما كانت روح الدعابة والفكاهة تتسلل بعفوية إلى أسلوب جدى فى سردها، حين يخرج عن النص فتنطلق ضحكاتنا البريئة لتشق عنان السماء وترتطم بسكون الليل. أتذكر حينها جدتى تخرج من الصباح حفنات القمح من "الصومعة" أو من أحد الأجولة المتراصة والمتكومة فى غرفة الخزين.. تملأ جدتى علبة صفيح فارغة من القمح وتقربها بعد أن قربت منها "الرحى" فتضع القمح رويداً رويداً فى فوهة الرحى القابعة بين ساقيها النحيلتين الممدودتين كعيدان الذرة اليابسة، تم تبدأ فى عملية دوران الرحى ليتساقط الدقيق من بين شقى الرحى، كنت أجمع لجدتى حبات القمح المتناثرة من الرحى.. أتذكر أيضا عندما كانت تعاقبنى على مشاغباتى لها عندما كنت أغافلها لممارسة الطحن بنفس إثناء غيابها عندما تذهب لأمر ما داخل المنزل، أو إذا ناداها أحد أفراد الأسرة. المكان الوحيد الذى كان يمنحنى أفقا للتخيل ومساحة من السعادة البالغة فى الإجازة هو الحقل كانت تنتابنى فرحة عارمة حين يعلن جدى فى المساء أنه سوف يصطحبنى معه صباحا إلى الحقل، كم كانت سعادتى حين يردفنى خلفه على ظهر الحمار فى الصباح الباكر للذهاب معه إلى الحقل كنت مبهورا لكل ما أراه فى هذا المكان.. شجرة الجميز الضخمة، وهى تظلل مبنى الماشية المبنى من الطين والقش.. وشجرة التوت الكثيفة تحت ظلالها تقبع ساقية جدى.. كنت أرقب بإعجاب شديد عملية دوران الساقية التى تروى زراعات جدى الواسعة، لكن كثيراً ما كنت أشفق على تلك البقرة النحيلة الضعيفة حين تعمل على أن تدور الساقية وهى معصوبة العينين من طلوع الشمس حتى الغروب فى صمت غريب وصبر عجيب. وغير ذلك من ذكريات عشتها وأنا طفل صغير لا تزال ذاكرتى تختزن الكثير منها إلى أن كبرت ومات جدى ثم مات أبى والكثير من أقاربى ثم ماتت جدتى، وبدأت معترك الحياة وأعيش ظروفها وتقلباتها والصراع من أجل لقمة العيش، وتوفير متطلبات الحياة لزوجتى وأولادى وغير الكثير ممن يعيشون هذا الصراع مع الحياة، ومع كل هذا الضنك نجد أنفسنا مثل حبات القمح تلك فى فوهة الرحى وبعضنا يتناثر حولها ويسقط ويظن أنه نجا، لكن هناك من يجمعها ويعيدها إلى فوهة الرحى لا محالة، وبعضنا الآخر لا يزال يقبع فى الصومعة ينتظر دوره أن يجىء ليلقى داخل فوهة الرحى لتطحنه رحى الحياة، وهو يدور ويلف وتتلقفه الأيام، وهو معصوب العينين فى ساقية الحياة على الرغم من أنى أذكر رحى جدتى وساقية جدى وأحن إليهما، وإلا أنى كرهت رحى الحياة القاسية وساقية الأيام المرعبة.