فى جلسة مع بعض المعارف كان الحديث يدور حول الصحافة المستقلة ومدى اختلافها عن صحافة الحكومة. وقد امتدح أحد الحضور صحيفة بعينها و بالغ فى إظهار التقدير والثناء عليها. ولما كنت متابعاً لهذه الصحيفة منذ صدورها فقد سألته: ما الذى يعجبك تحديداً فى هذه الصحيفة؟ فاستفاض فى الحديث عن الكُتاب الذين يقرأ لهم والأبواب التى يتابعها والصفحات التى تحظى بإعجابه. ولا أنكر أن معظم رأيه قد صدمنى، لأنه أثنى على كل ما يتوجب على الصحيفة أن تغيره (من وجهة نظرى) فامتدح كتاباً لا يصلحون للكتابة فى صحيفة مدرسية، وتجاهل الكتاب القلائل الذين يمنحون الصحيفة وزناً، ولم يلحظ أوجه التمييز الحقيقية مثل الإخراج الفنى والانفرادات والتغطية إلخ. كانت جلستنا عادية وليس بها ما يسوء، وبالرغم من ذلك فقد ضبطت نفسى واجماً وشاعرا بشئ من خيبة الأمل، و استيقظ فى داخلى أمر كذّبت نفسى بشأنه طويلا، وهو أن جانبا كبيرا مما يجهد الكتاب والصحفيين والمبدعين عموما أنفسهم فى تقديمه.. لا يشعر به أحد تقريبا، وهذه فى رأيى هى مأساة المبدعين فى مصر، ويمكن ملاحظة الأمر فى كل أوجه العمل المتصل بالكلمة المقروءة، صحافة أو أدب، وكذلك الفنون كالسينما والمسرح و الموسيقى. إن الكاتب أو المبدع يجهد نفسه فى البحث عن التميز والجدة والطرافة والعمق، وفى النهاية لا يصل ما ينتجه إلا إلى حفنة قليلة من المتلقين وهم فى الغالب مثله من المشتغلين بالكتابة أو من القراء الأكثر وعيا و ثقافة. وتحضرنى خبرات و تجارب أكدت لى على مدى العمر أن عددا قليلا لا يتجاوز عدده فى أحسن الأحوال ثلاثة آلاف من المصريين هم المستهلكون للقصة والرواية والفيلم الجاد وديوان الشعر، وهؤلاء يمكن أن تشاهدهم فى عروض أفلام محمد خان، كما تشاهد معظمهم فى مظاهرات حركة كفاية، كذلك يمكن أن تلتقى بهم فى حفلة لعلى الحجار أو أمسية شعرية لنجم أو سيد حجاب. وهؤلاء أنفسهم هم من يُحسنون قراءة الجرائد، وهم الذين يؤجلون إعلان وفاة مصر ثقافيا و فنيا و سياسيا. مثل هذه الحقيقة هى التى دعت المخرج داوود عبدالسيد، عندما أقدم على إخراج رواية "مالك الحزين" لإبراهيم أصلان إلى تغيير الاسم إلى الكيت كات وذلك حتى يوهم جمهور السينما بأنه يقدم فيلما مسفا على طريقة أفلام "الدرب الأحمر" و" الباطنية" و"فتوات الحسينية". وبالتأكيد هذه الحقيقة هى التى تمنع سينمائيين مبدعين من تقديم كل ما لديهم، ويطوون أدراجهم وجوانحهم على أعمال بديعة كتبوها ويكتفون فقط بتقديم ما هو فى الإمكان، و يبدو أن السينما قد أصبحت هى الأخرى مثل السياسة..فن الممكن!. قد يقول قائل وله الحق إن على المبدع أن يقترب من الناس ويقدم لهم ما يتفاعلون معه بسهولة وبدون تقعر.. وهذا صحيح، لكن المشكلة أن هناك من يفعل ذلك ومع هذا لا يجد جمهوراً. إن المشكلة الحقيقية هى تدنى مستوى المتلقى على نحو مروع، مما يجعل أى جهد إبداعى هو حرث فى الماء، وأنا هنا لا أتحدث عن قراءة لوحة فى معرض فنون تشكيلية والتوحد مع مفرداتها، أو الاستماع إلى عزف سيمفونى، فهذه الأشياء بطبيعتها قليلة الجمهور وتقتضى رقياً عقلياً ونفسياً، ولا أتحدث عن قراءة الكتب التى لا تصدر فى أكثر من ثلاثة آلاف نسخة.. نفس عدد الجمهور الذى تحدثت عنه، كما أنى لا أتحدث عن أفلام يوسف شاهين التى يختلط الإبداع فيها بالهلوسة ولا حتى أفلامه فى البدايات مثل باب الحديد الذى يتصوره "جو" كنزا سينمائيا فى حين استقبله الجمهور عند عرضه باعتباره فيلما للشجيع فريد شوقى دون أن يلحظوا وجود يوسف شاهين بالفيلم! و قد عدّوه امتداداً لأفلام سواق نص الليل ورصيف نمرة خمسة، وإن كان أقل جودة لعدم وجود ضرب! كل هذا لا أتحدث عنه..إنما أتحدث عن أضعف الإيمان وهو قراءة الصحف والتمييز فيما بينها. إنى أتصور أن مستقبل هذا البلد يتوقف على رفع النسبة المتدنية من المتلقين الفاهمين، فهذا هو السبيل لأى تغيير سياسى أو اجتماعى نحلم به، ومن ثم نقوم بترميم الصدع الذى نشأ لدى القارىء المخدوع الذى مسخوا ذوقه على نحو لم يحدث من قبل، وجعلوه يتوهم القبح جمالاً والجهل نوراً و البلادة حكمة.