فى هذا اليوم غير العادى قرر التخلى عن روتينه اليومى. نعم قرر أن يكون إنسانا آخر. حيث يعيش حياة رتيبة أصابته بالاختناق والملل وتسرب إليه اليأس وذلك بسبب هذه الوحدة حيث يعيش وحيدا بعد وفاة والده ليلحق أيضا بوالدته التى توفت منذ أن كان صغيرا لم يكمل عامه العاشر. إنه يريد أى شىء غريب يقوم به شىء غامض مغامرة كما كان يقرأ كثيرا فى رواياته يريد أن يكون بطلا لإحدى هذه الروايات فيخرج من حالة الملل هذه. اتجه إلى دولاب والده الذى لم يفتحه منذ فترة كبيرة ووجد هذا الجلباب الذى يمتلىء برائحة الماضى البعيد حيث جودة الاقمشة والدقة فى التفصيل وارتدى الجلباب واخذ العصا الذى ورثه والده عن جده ايضا فرغم مرور السنوات إلا انه لم يفقد بريقه حتى الآن والسبحة التى كانت معلقة على مسمار فى داخل الدولاب وحتى الحذاء موجود فهو لم يفرط فى أى شىء تركه والده احتفظ بكل شىء وعندما ارتدى الجلباب والحذاء وحمل العصا ونظر إلى المرآة انتابته دهشة من هذا المنظر وانتابه ايضا قليل من الخوف لأنه نظر إلى هذه الصورة المعلقة على الحائط فوجد نسخة طبق الاصل من والده وهو فى شبابه واستمر هكذا لدقيقة مرت كأنها ساعة ينظر لنفسه فى المرآة وينظر إلى الصورة المعلقة لوالده وهو صغير وأخيرا ابتسم وقال الله يرحمك يا حاج ولكن إلى اين اذهب بهذه الملابس وفكر قليلا قبل ان يقول لنفسه ولم لا أذهب إلى الحسين حيث عبق التاريخ وروعه المكان تناسب هذه الملابس لأعيش قليلا بعيدا عن تعقيدات المدينة الصاخبة التى فقدت ملامح الانسانية وأصبح التنزه فيها عقوبة وليس متعه وأيضا كان والده يحكى له انه كان يرتاح كثيرا كلما مر بضائقة نفسية من الذهاب للحسين ويصلى ركعتين فى رحاب المسجد التاريخى الهام. وضع المحفظة فى جيبه وترك هاتفه المحمول حتى لا يزعجه أحد وفتح الباب ونزل سريعا على درجات السلالم فى هذا المنزل القديم بالعباسية ولم يلحظ أحد أنه المهندس وليد وعندما نزل أمام المنزل كان هناك تاكسى يقف فاستقل التاكسى وانطلق فى اتجاه الحسين. نزل من التاكسى ونظر إلى المسجد من الخارج فأحس راحة وأخذ نفسا عميقا قبل يسير فى اتجاه الباب ليدخل وفجأة سمع الصوت ينادى وبقوة وهناك من يخبط على كتفه من الوراء تنادى المرأة استنى يا أحمد ينظر وليد فى ذهول أنا يا حاجة انتى مين؟ ترد: أنا سعاد يا أحمد وتنزل الدموع حيث لم تمهله فرصة لاستدراك الموقف وتواصل انا قولت هتيجى هنا فى نفس المكان اللى اتقابلنا فيه اول مرة كنت حاسة وكان قلبى حاسس انك هتيجى وحلمت كتير باليوم ده وهنا تنزل دموعها وتصمت عن الكلام فكر قليلا فى كلام السيدة التى تقترب من السبعين فى عمرها وهنا فهم كل شىء نعم انها هى التى كان يحكى عنها والده الحب الاول صحيح تغيرت الملامح ولكن نفس الوصف وكثيرا ما حكى عنها والده وحكى له كل شىء كيف انه كان يحبها وكيف انه تقدم لها ولكن والدها الذى كان يعمل فى السلك الدبلوماسى رفضه لعدم اقتناعه ان يزوج ابنته لمهندس مازال يبدأ حياته وكيف ان والده اقترح عليها الهروب معه والزواج ولكنها رفضت ان تعصى والدها وانها استمرت كما هى لم تتزوج فى حياة حزينة اصابتها بالاكتئاب ولم تجد سوى ان تأتى إلى هذا المسجد فتجد فيه راحة لكل ما تفكر فيه. كل هذا مر فى باله لم يأخذ منه اكثر من ثوانٍ استرجع فيها حكايات والده وهنا ترد سعاد التى اعتقدت انها تواجه روح احمد التى اتت من الماضى البعيد اندمجت فى الخيال الذى فكرت فيه كثيرا وتوهمت انها تقف فعلا امام احمد وتكمل سعاد سعاد: انا عايزاك تسامحنى مكنش ينفع اسيب البيت وأتجوز من وراهم وأنا تعبت من بعدك ولم اتزوج وتعبت ووالدى توفى بعد ما تركنا بعض بسنة واحدة ولم استطع ان اصل اليك ومن يومها لم اتوقف عن زيارة المسجد اشعر فيه بالراحة والسكينة والهدوء واشعر بروحك تتجول فى المكان. والنهاردة لما شوفتك حسيت ان روحى رجعت لى بعد ما اتسرقت منى وليد متقمصا دور والده أحمد: موش زعلان منك ومفيش حد فينا موش مسروق كل واحد فينا مسروق منه حاجة. فيه اللى اتسرقت منه صحته وفيه اللى اتسرقت منه حبيبته وفيه اللى اتسرقت منه وظيفته وفيه اللى اتسرقت منه انسانيته. سعاد: طول عمرك فيلسوف وليد متقمصا والده: دى الحقيقة موش فلسفة ولا حاجة سعاد: انا عارفة انك حلم بس موش عايزة اخرج منه انت اتسرقت منى زمان وانا موش عايزة اتسرق تانى وليد: ممكن اكون حلم وممكن تشوفينى تانى بس اهم حاجة تعرفى انى مسامحك خلاص وموش تتعبى نفسك لان كل شىء مقدر ومكتوب واللى حصل كان لازم يحصل وأكيد كان خير ليا وليكى ويبتسم ويفتح يده ليسلم عليها مضطر امشى سعاد ممسكة بيده ولا تريد ان تتركها: هشوفك تانى ولا لأ وليد متقمصا والده: سيبيها لله محدش عارف بكرة فيه ايه وتركها وانصرف مسرعا هذه المرة حتى اختفى وسط الزحام وهو يسير تدور داخل عقله مجموعة من المشاعر حقا إنه يوم غير عادى لم أكن أتوقع أن يكون هكذا لقد عاش زمنا ماضيا ذكريات جاءت من بعيد من عشرات السنين لترتطم بالواقع محملة بكل هذه المشاعر بين من أحبوا بصدق ووفاء وقارن بين هذه العلاقات المخلصة وبين علاقات اليوم حيث لا وجه للمقارنة وهنا توقف تاكسى واستقله لينقله إلى الحاضر مرة أخرى الذى كان يريد الهروب منه ولكن لا فائدة عاد مرة أخرى إليه.