إلى أين يمضى هذا الأسمر الفارع قالت الوعول: ذاهب إلى ترجمة الليل ذاهب ليكون قاسم حداد قلت: كيف؟ قال وعل بقرون ذهبية: إذا رأيته لا يطمئن إلى جهة ولا يستقر فى إقليم فهو قاسم إذا رأيته يتحصن ضد أوهام لا يراها سواه فهو قاسم وإذا كان لا يأخذك ولا يتركك فهو قاسم. أهو شاعر أم نبى؟! سألتُ الوعل فقال: أكثر قليلا من شاعر..أقل قليلا من نبي! قلتُ لغتى يسكنها نبى حينًا وحينًا يسكنها شاعر، لغتى مأزومة فعندما اطلعت فى الصبا البعيد على شيء من (العهد القديم) تبدت اللغة على نحو مواز، فبدلاً من القوة والجزالة والإحكام والكثافة فى القرآن رأيت نفسى أمام لغة رقيقة طازجة هشة وآسرة بما هى كذلك، إنه الآخر فى اللغة، ولعهد طويل جدًا ظلت لغتى مأزومة بين هذه وتلك.. بين الإحكام والطازجة، بين القوة والرقة، بين ذكورة الصحراء وأنوثة الماء، بين لغة الشعر ولغة النبوة. كنت أكتب لأن الكتابة كأزميل النحات تفصلنى عن الكتلة العمياء، وتحققنى كوجود بصير، أما قاسم فيكتب لأنه خائف. ولأن الكتابة تحميه من العالم. يقول العارفون به إنه يولد مرة بعد مرة وفى كل مرة يكون شخصا آخر، لأنه مولع بالشكل، ويرى أن تحولات الشكل هى استجابة صادقة لقلق الروح والمخيلة، كنت أسمعه يقول: هل النص شهوة اللغة؟ هل المعنى شكل يفيض بالأبجدية؟ فى أوائل السبعينات كنت أفكر على هذا النحو: إذا كنا جميعا نقول الشىء نفسه تقريبًا، مسايرة للناصرية أو مناهضة لها فالأهمية إذن لم تعد فى القول وإنما فى كيفية القول، أى إن الشعرية قد انتقلت من المضمون إلى الشكل بتعبير تلك الأيام البعيدة، وقاسم أيضا كان يرى ذلك، بل و يرى أن نفى الشكل هو نفى للشخص كفرد وذات فى مقابل ترجيح عمومية المضمون المحتمية بشعار جماعية الرؤية. كنت أقول إنه ما دام المضمون هو كد الشاعر وهمه الأول فقد أصبح من الممكن، بل من الطبيعى أن يكون البعض نوابا عن الكل، ويكون الشعر فرض كفاية وليس فرض عين. تساءل قاسم: ما الذى يميز شاعرًا عن آخر إذا كتبا فى مضمون واحد، لماذا يعجبنى الأول ولا أتوقف عند الثانى؟ لابد أنه الشكل. كان مأخوذًا بأهمية الطريقة باعتبار أن الشعر سعى جمالى لاكتشاف التجربة الإنسانية بحساسية تليق بها، ولمنح النص فرصة أن يقول شكلاً جديدًا. سمعت الأجراس وهى تنهض من نومها سمعتها مبحوحة الصوت تريد للريح أن تحمل الكلام تريد للزوقة أن تنهر السماء تريد للطرائد أن تكف عن الحكاية سمعت الأجراس تخلع نحاسها العتيق وتأمل فى هواء جديد أكثر رحمة من الحجر. لسنا على وفاق دائما لكن ما نختلف عليه قليل فى الحقيقة، أنا مثلاً لا أحفظ شعرًا لا لى ولا لغيرى ودائمًا ما كان هذا يخجلنى، أما هو فكان يقول إن لديه موهبة النسيان الأمر الذى يجعله يقبل على الكتابة كما لو كان يكتب للمرة الأولى، فهو لا يصدر عن ذاكرة تختزن ما كتب أو حفظ وساعده هذا على اكتشاف عوالم وأساليب جديدة تبتكرها المخيلة ولا تدفقها الذاكرة. فى تجربة قاسم كما أرى عدة نقلات، ففى أعماله الأولى مثل البشارة وخروج رأس الحسين والدم الثاني، أجد شعرية الخطاب، حيث يصبح الشعر أداة لتغيير العالم من منظور الذات الشاعرة وجماعتها المرجعية. كان هذا حتى منتصف السبعينيات، لكنه ابتداء من (قلب الحب) و(القيامة) فى أوائل الثمانينيات راح يخرج من تحت جلده شخصا بعد آخر كلهم باسم قاسم لكنهم لا يشبهون بعضهم البعض، و فى هذه التحولات اختفى الشاعر النبى الذى كان يثق فى دعواه وفى قدرته على التغيير. كان قاسم يتحول من شعرية الشعار إلى شعرية الرؤية والكشف، من الظاهر إلى الباطن، من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، وحتى النص التفعيلى المطول (القيامة) يظهر بصريًا فى عدة أشكال تخفت من هيمنة الصوت وتجعل الدال اللغوى واحدا من دوال الشعرية لا وقفا عليه، و هو ما جعل من الممكن قراءة كل سيرورة من سيرورات الشكل قراءة خاصة، كما جعل الجمع ممكنًا بين كل الأشكال وسيرورات قراءتها فى مقاربة واحدة. نقلت روحى من النص للحاشية وهيئتها لاحتمال الغياب كأن الكتاب سيمنحنى ناره الغاشية. فى تحوله الثالث انفتح قاسم على الآخر المبدع باعتباره قرين الذات الشاعرة وامتدادها المختلف عنها والمتشاكل معها فى آن واحد، كما فى تجربته مع الروائى أمين صالح فى (الجواشن). لماذا دخلنا هذا النفق الجهنمى؟ ليس ثمة ضوء لا همس ولا محادثة الأسطورة تنام هنا طوينا الأسلحة كالعباءات بعد مسافات من التمائم خضنا أشداق الوهم كمن أسكرتهم شهوة النهايات كان رحيلنا فاحشا. وكما فعل مع ضياء العزاوى فى (أخبار مجنون ليلى)، حيث تلتقى مخيلتان فى أبهاء نص واحد. تجربة قاسم فى هذه المرحلة تجربة جمالية وجودية تستكشف حياة الكائن الظاهرة والباطنة، وهى تختزل كشوفه فى الشكل وتكثفها بوجازة التقطير. إن الحشد الذى يحمل اسم قاسم يعنى أن كل كتابة جديدة هى علاقة مختلفة بالآخر وبالعالم. لا أحد يعرف الحجر مثلى بذرته فى أجنة الجبل وربيت فيه وردة المعادن فشبّ مثل طفل يمشى وتبعت خطاه صمته قلب يصغى وعزلته الجدية تعلم الكلام صقيل يشفّ عن الكنز وينبثق فى كتب وفى مرايا أقرأ فيه زجاج الجنة وتعويذة العشق يتصاعد خفيفاً ويمنح الريح صداقة الكتابة مثلى الأشكال المستقرة سلطة، هكذا أعتقد ويعتقد قاسم، إذ تتماهى سلطة الشكل مع سلطة الواقع ويصبح على الفنان أن يعبر عن ذاته المتمردة بكسر الشكل وإعادة بنائه مرة بعد مرة، وليأخذ فى كل مرة شكل الحياة وشكل العالم فى تحولاته. الإبداع فى عمقه ثقافة مختلفة وفكر آخر وبحث فى فضاءات جديدة لكتابة تفارق السائد والمسيطر، هكذا يصل قاسم الشعر بالفكر النقدى مفككا الخطابات التقليدية لكشف أشكال مركزيتها وعنفها المستند إلى مقولات ميتافيزيقية. لكنه غامض أحيانا! فابتسم الوعل وقال: لو فهموا المعنى لأهدروا دمي قلت: دمه أم دمك؟ قال: سيان.. دمه أو دمى قلت: أأنت قاسم حداد؟ قال: كأنى هو.