سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ليست «العور» وحدها.. «سوبى» و«منقريوس» و«الجبالى».. قرى تختلف أسماؤها وتتشابه مصائر أبنائها..الأهالى تعبوا من العمل «أجرية» بملاليم فى مزارع العنب وحقول البطاطس وأراضى الاستصلاح فلجأوا للسفر
حزام أخضر واحد يلتف حوله مجموعة قرى متجاورة تختلف أسماؤها، لكنها تتقاسم المعاناة من حيث نقص الخدمات، وضيق اليد، وتتشابه فى أن منها خرج الشهداء ال21 الذين قتلوا فى ليبيا. فإلى جانب قرية «العور» تقع قرية «الجبالى»، ولا تبعد عنها إلا بضعة أمتار، وعلى ضفاف الترعة فى أول البلد يقف الأطفال منتظرين ما ينقلهم إلى منازلهم بعد قضائهم اليوم الدراسى، تحيطهم أكوام القمامة من كل ناحية، بينما يقف عم يوسف فى كشك صغير خشبى، يتفقد حاله، ماسكًا بسبحته الطويلة، مكتفيًا بالدعاء «حسبى الله ونعم الوكيل.. الكهرباء والمياه موجودة طوال اليوم بسبب زيارة المسؤولين». أمام مدخل القرية التى فقدت اثنين من أبنائها فى حادثة ليبيا، تحدث مجموعة من الشباب ل«اليوم السابع»: «نحن نموت كل يوم»، هكذا بدأ أحدهم فى الثلاثينيات من عمره حديثه، حامدًا الله على التفات المسؤولين مؤخرًا إليهم، حتى لو كان بسبب الحادث، أما محمود سيد فظل ينظر إلى المساحات الزراعية الشاسعة، والعجز فى استغلالها، وأرجع ذلك للتلاعب فى قوانين الاستصلاح الزراعى، مما أدى لعدم انتفاع المزارعين، واستغلال ظروفهم المعيشية الصعبة من قبل مالكى الأراضى، واستئجارهم للعمل فيها بأجر زهيد، وهو ما دفع الأهالى لعدم رغبتهم فى استصلاح الأراضى. سيد على أحد أهالى القرية اشتكى ضيق الحال كغيره من شباب القرية الذين لم يجدوا فرصة عمل، فقرر بعضهم شراء «توك توك» للعمل عليه، لكن الفقر جعل غالبية أهل القرية يعزف عن ركوبه. «عم يوسف» الذى يعانى من إعاقة حركية جعلت من الصعب الحصول على أى فرصة عمل، افترش فاكهته على يمين مدخل القرية، وجلس بجوارها، متخذًا من هذا المكان محلًا لرزقه وبيتًا له ولأطفاله الأربعة. «يوسف» الذى كان يسكن هو وزوجته مع إخوته ووالده فى حجرة صغيرة، وحين رزق بأطفاله وجد أن تلك المساحة الصغيرة لم تتسع لهم، فقرر اللجوء إلى الشارع، وافتراش الطريق علّه يكون بيته البديل، كل ما يتمناه وغيره فى تلك القرية التى تغيب عنها حتى الوحدة الصحية، وبها فرن خبز واحد لا يقدر على تلبيه احتياجاتهم، أن تتحسن أحوال قريتهم. على بعد مسافة قليلة من «الجبالى» تقع فى الجهة الغربية قرية «منقريوس» التى سادها الصمت والحزن لفقدها واحدًا من أبنائها فى الحادث.. «يعنى الناس معرفوش يموتوهم هنا راحوا يموتوهم بره.. يعنى إحنا نعمل إيه.. نموت كفرة»، هكذا قالت إحدى سيدات القرية معلقة على استشهاد العمال المصريين. ملامح الأهالى كفيلة بأن تخبرك بالوضع المعيشى الذى يحيون به، فلا توجد أسطوانات غاز، ولا خدمات، ولا وحدة صحية، ولا أسقف لمنازلهم، وعلى الرغم من يأسهم من تغير الأوضاع، تحدثت السيدات عن المعاناة التى يعيشها أهل القرية كل يوم، فتلك القرية التى تشتهر بزراعة البطاطس والاتجار فيها، أصبحت غير قابلة للحياة، خصوصًا مع زيادة المعروض من البطاطس بشكل لا يتوافق مع نسبة الطلب، وهو ما أدى إلى انخفاض سعر بيعها مقارنة بالتكلفة، فعمت الخسارة. «السوبى» قرية تبعد عن مدخل العور ببضعة أمتار، وتغطى حدائق العنب معظم مساحتها الخضراء، وجزء كبير من نشاط أهالها يعتمد على الاتجار فيه، وفى خشب أشجارها، بعد تحويله إلى فحم، إلا أن ذلك لا يكفى عموم أهاليها الذين دفعهم العوز للسفر والعمل فى الخارج. القرية التى فقدت هى الأخرى ابنًا لها فى الأحداث الأخيرة، ومنازلها من الطين والطوب اللبن، عرف عنها توريد العمال إلى ليبيا، حيث يسلكون طرقًا شرعية أو غير شرعية للسفر، فالأهم بالنسبة لهم أن يجدوا ما يحملهم خارج حدود قريتهم، دون الالتفات لسن كبيرة أو صغيرة، الكل هنا يذهب للعمل فى البناء. القرية مثل سابقاتها، يحمل أهلها إرثًا من الشكوى لسوء الحال، حيث لا تملك مثل مثيلاتها إلا مدرسة واحدة للمرحلتين الابتدائية والإعدادية، لا تكفى عدد الطلاب المتزايد، ومخبزًا واحدًا لا يفى باحتياجات الأهالى، واعتمد أهالى القرية على أنفسهم، ولم ينتظروا الحكومة، وبالجهود الذاتية قاموا بعمل شبكات صرف صحى بدلًا من «الطرنشات». جلال حسن، أحد شباب القرية الناجين من الأحداث الأخيرة، حيث عاد لبلدته قبل الحادث بشهرين، مع زيادة تدهور الأوضاع فى ليبيا، وانتشار حالة الانفلات الأمنى، يقول: «أكل العيش» فى البلد المجاور أصبح مرًا، ولم يجد المصريون هناك أى مجال سوى الاستمرار طوال تلك المدة، لكن فى ظل تداعيات الأحداث الأخيرة منذ إعلان بدء قيام الدولة الإسلامية فى ليبيا، أصبحت هناك مخاوف من الاستمرارية، وضمان السلامة، وبالفعل بدأت مجموعات من الشباب المصرى والعاملين هناك فى الرجوع عبر الطريق البرى، وحتى الآن لا أصدق ما حدث، وأدعو الله أن يثأر لهم.