سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
قرى الشهداء.. لا خبز.. لا صحة.. لا تعليم.. المسئولون لم يدخولها إلا بعد الحادث.. المنيا تبكى دما على رجال ذهبوا خلف لقمة العيش فلم يعودوا أحياء أو أمواتا.. والأهالى مازالوا يحلمون بالسفر لليبيا
«بلاد ألفناها على كل حالة، وقد يؤلف الشىء الذى ليس بالحسن، وتستعذب الأرض التى لا هواء بها، ولا ماؤها عذب، لكنها وطن».. هكذا نطق الشاعر العربى أبوفراس الحمدانى، وهكذا يقول لسان حال أهالى القرى المكلومة بالمنيا التى فقدت واحدًا وعشرين من أبنائها، قرروا الخروج من دائرة الفقر المحيطة بهم، ليذبحوا فى بلاد الغربة. «العور، الجبالى، سوبى، دفش.. وغيرها»، أسماء قرى محافظة المنيا، راح أبناؤها ضحية البحث عن لقمة العيش، تقاسموا القروش التى يمتلكونها، من أجل أن يوفروا تكاليف السفر، ويحتلوا ترتيبًا فى صفوف العمالة المصرية بالخارج فى مجال الإنشاءات، لتدر عليهم ما لا يستطيعون به الإنفاق على أسرهم، وهذا أقصى ما حلموا به. مركز صحة قرية العور «اليوم السابع» تجولت فى تلك القرى، فرصدت مشاكل وهموم أبنائها الذين يحلمون بأبسط حقوقهم فى الحياة، حتى لا يضطروا للسفر، فلولا الحاجة لناموا جوار أبنائهم وزوجاتهم وآبائهم، لا فى بلاد الغربة، لو توافر عمل كريم فى الحكومة أو غيرها، ما دفعوا للهجرة، لو توافرت مستشفيات حكومية وتعليم مجانى حقيقى ما احتاجوا لزيادة فى الدخل، لو توافر خبز آدمى وخدمات لذويهم لكفت «القروش» التى كان يجنيها آباؤهم من الزراعة، ولم يذوقوا المهانة، ويتعرضوا للقتل، ويصبح دمهم رخيصًا، وحتى لا تتحول مصر كاملة لمجرد قرى تبكى أبناءها، نضع هذا الملف بين أيدى المسؤولين. قرية «العور» اسم احتل مرتبة متقدمة فى محركات البحث خلال الأيام الماضية، ليس لأنه البلد الذى ولد به العدد الأكبر من المصريين المختطفين على يد تنظيم داعش قبل الإعلان عن إعدامهم ذبحا، ولكن لأنها كانت ومازالت تحتفظ بما يجعلها تصنف ضمن أفقر قرى محافظة المنيا التى لم يجد أبناؤها سبيلا للرزق فيها فقرروا السفر إلى ليبيا، نعرض فى هذا التحقيق لحال القرية، وحال سكانها الفقراء. قرار إزالة الوحدة الصحية القرية «حديث البلد» لم يزرها أى مسؤول إلا بعد الحادث القرية التى لم تطأها قدما مسؤول، منذ حين بعيد، تحولت الآن لحديث البلد كله، ومحطة للمسؤولين الذين يلتقطون الصور أثناء تعزيتهم الأهالى، من أجل كسب تأييد أو الاستمرار فى منصب، لا يعرفون أنهم أحد الأسباب التى دفعت الشهداء للسفر للبلاد الأخرى، من أجل توفير قوت يومهم الذى لا يوفره المسؤولون، غادروا ديارهم من أجل توفير قيمة العلاج لهم ولذويهم فى عيادات الأطباء، لأن الوحدة الصحية بالقرية مهددة بالانهيار، ولا يوجد بها أطباء، تركوا ديارهم من أجل الحصول على أموال لتعليم أبنائهم، لأن المدارس هنا سيئة، وهذا حال كل الخدمات فى القرية، حسب ما يقول محمد عبد النبى، أحد الأهالى: «نحن مشردون لا يشعر بنا أحد ولم يهتم مسؤول واحد بهذه القرية من قبل أو يدخل لزيارتها سوى بعد الحادث». الفقر هو السيد الفقر هنا هو السيد، هو الحاكم والمتحكم فى مصائر الجميع، وخير مثال على ذلك، «عبدالنبى» الأب لتسعة أبناء، وكل ما يتحصل عليه نهاية كل شهر هو مبلغ 405 جنيهات فقط لا غير، ومن المفترض أن يخصص منه حصة يومية لشراء الخبز، وينفق القليل الباقى على أبنائه فى المراحل العمرية المختلفة، إلى جانب مصاريف العلاج والمعيشة والطعام. المخبز الوحيد بالقرية معطل ويتشابه خوف «عبد النبى» من غده مع غيره من أهالى القرية على مستقبل أطفالهم وشبابهم الذين يحاصرهم شبح البطالة داخل هذا المكان، فلم يسمع الأهالى من قبل عن فرصة تعيين لأحدهم فى وظيفة فى الحكومة أو فى غيرها، والسبيل الوحيد للرزق أمامهم هو زراعة الأرض أو السفر للخارج، والحل الأخير يشوبه خوف آخر من العودة جثة هامدة كما حدث مع أبناء قريتهم. الشباب ما زالوا يحلمون بالسفر القرية التى عاشت ساعات ترقب، ما بين أنباء مقتل أبنائهم، وأخرى تفيد بأن ذويهم على قيد الحياة، وبين صدور احتضنت صور فلذات أكبادها، وقلوب تضرعت وأعين توسلت لبارئها بأن يعيد إليهم أبناءهم سالمين، كان هذا هو المشهد قبل ساعات معدودة من الفيديو الذى بثته «داعش» لذبح ال 21 مصريا، لتكتسى القرية كاملة السواد، وتخفت أصوات البهجة، ويعلو الصراخ والعويل، الكل هنا يبكى، أب تغرب لتلبية احتياجات أبنائه، وابن واصل الليل بالنهار للإنفاق على والديه وأشقائه.. الكل هنا يبكى رجالا خرجوا بحثا عن لقمة العيش فلم يعودوا. الأهالى يعانون من أجل الحصول على الخبز ورغم ذلك، لا يزال حلم السفر للخارج، فى سبيل الحصول على حياة أفضل، هو المسيطر على شباب القرية، بل لم يستثن أطفالها، فإلى جانب أحلامهم البسيطة التى تتشابه مع أمنيات أطفال أفضل منهم اقتصاديا واجتماعيا، إلا أن حلم السفر إلى الخارج مازال يراودهم على الرغم مما حدث، فوفقا ل«أمير» البالغ من العمر اثنى عشر عاما ويحلم بأن يكون طبيبا، «لو قرانا أصبحت أفضل أكيد مش سنضطر للسفر ونعرض حياتنا للخطر، لكن لو الوضع استمر على ما هو عليه فلا يفرق الموت هنا أو الموت فى الخارج». أمير ورجب وهشام وغيرهم من الأطفال الشاهدين على أيام الحزن والألم التى عاشتها، وستعيشها قراهم خلال الأيام الماضية بعد فقد أبنائها، أقصى ما يتمنونه هو أن تتحسن أحوالهم المعيشية، وأن يجدوا أماكن تفتح أبوابها لتعليمهم، وفرص عمل تستقبلهم بعد تخرجهم من الجامعات التى يحلمون بها، ولكن يبدو أن أحلامهم لن تتحقق أبدًا. الترع المنفذ الرئيسى للصرف قرية «الشىء الواحد» ففى هذا المكان الذى اُشتهر بزراعة العنب، ويقطنه ما يقرب من 500 أسرة ما بين مسلمين ومسيحيين يعيش الأهالى على أرض «الشىء الواحد» كما يطلقون عليها دائما، هنا يوجد مخبز واحد من المفترض أن يغطى احتياجات تلك الأسر، ووحدة صحية وماسورة صرف صحى وكذلك مدرسة ابتدائية واحدة، بينما تبعد المدارس الإعدادية والثانوية مسافة أربعة كيلو مترات عن القرية. الوحدة الصحية «بلا أطباء» مبنى ذو طابق واحد، يتقاسم مع بقية بيوت القرية، سمتها المميز، من حيث البناء بالطوب اللبن، تتوسطه لافتة متواضعة مدون عليها «وحدة صحة العور»، وتملأ التشققات جدرانها من كل الجوانب بشكل يوحى بانهيارها فى أى لحظة، وعند سؤالنا عن ذلك، تأتى الإجابات أن الوحدة صدر بشأنها قرار إزالة وتعليمات من قبل مدير الوحدة المحلية لإدارة الوحدة الصحية بالعور فى الخامس والعشرين من مارس الماضى بضرورة إخلاء المبنى حفاظا على الأرواح، ولكن لم ينفذ حتى وقتنا هذا، مما جعل الأهالى يتخوفون فى كل مرة يأتون للوحدة برفقة أطفالهم من سقوط المبنى عليهم وعلى العاملين فيها. الوحدة وفقا لشهادة الأهالى، ومن بينهم سعيد زهران، لا يتواجد فيها طبيب بشكل مستمر، مما يدفع الأهالى للخروج لوحدات القرى المجاورة أو للمستشفى المركزى الذى يبعد عن قرية العور مسافة 15 كيلومترا أو اللجوء لعيادات الأطباء الخاصة، ووفقا لردود أحد القائمين على الوحدة، رفض ذكر اسمه، فإن الوحدة كغيرها من وحدات الصعيد تعانى من عجز فى عدد الأطباء الذين يتم انتدابهم، خاصة أنه لا يوجد سوى 40 طبيبا فقط يشرفون على 60 وحدة صحية فى قرى محافظة المنيا، وتم مخاطبة الجهات المختصة لانتداب أطباء وعددهم 23 طبيبا فى تلك القرى وفى انتظار النتيجة. الحزن يعتصر قلوب الأهالى الفشل الكلوى.. «المرض الرسمى» الترع التى تصاحبك طوال سيرك داخل القرية، هى المنفذ الوحيد للتخلص من الصرف الصحى، خاصة أن القرية كغالبية قرى المنيا مازالت تعانى من غياب شبكات الصرف الصحى، ويعتمد أهلها على الطرنشات، وهذا كان سببا كفيلا من وجهة نظر هانى سمير أحد أهالى القرية لإصابة عدد كبير منهم بالفشل الكلوى، بسبب اختلاط تلك المياه بمياه الشرب، والاعتماد عليها أيضا فى رى الأراضى الزراعية. أطفال القرية فرن واحد لخدمة الأسر «صرفنا كل ما نملك وشاركنا بعضنا البعض لإنشاء هذه المخابز والآن مجلس المدينة يعطل عملهما ولا نعلم ما السبب»، بهذه الكلمات بدأ مجدى محمد صاحب أحد الفرنين المنشأين مؤخرا فى القرية، حديثه، لافتا إلى ما سماه ب «المعاناة التى يكابدها أهالى القرية للحصول على رغيف العيش»، خاصة أن المخبز الوحيد الموجود فى القرية من المفترض أن ينتج 22 ألف رغيف، ولكنه ينتج 11 ألفا فقط، وبالتالى لا يكفى احتياجات الأهالى الذين يضطرون للخروج فى منتصف ليل كل يوم لشراء الخبز من القرى المجاورة. ويضيف «مجدى» الذى يتشابه حاله مع ممدوح محمد، صاحب الفرن الآخر، قائلا: «بعت المواشى التى كانت لدى وقطعة الأرض التى أملكها من أجل إنشاء هذا الفرن وعلى الرغم من أنه مجهز تماما من حيث كل الآلات إلا أن مجلس المدينة حتى الآن لم يأت لمعاينته، ولا نستطيع المطالبة بحصتنا فى الدقيق إلا بعد إجراء المعاينة، وبالتأكيد إذا تم تسهيل العمل مع هذه الأفران الجديدة سنوفر كثيرا من الخبز لتلبية احتياجات أهالى القرية بدلا من الخروج ليلا للقرى المجاورة، وتعريض حياتهم للخطر». البكاء على فراق الأحبة القرية تحولت إلى سرداق عزاء الحزن لا يفارق الجميع المخلفات فى الترع تبكى فراق العائل الوحيد للأسرة مخبز القرية معطل قرى الشهداء أخبار متعلقة: الحزن يؤلف القلوب..رغم الألم.. «العور» نموذج «فريد» للتلاحم بين المسلمين والأقباط.. والجميع تشارك فى بناء الكنيسة.. وتاجر مسيحى تبرع ب10 آلاف «طوبة» لبناء المسجد.." القرية لم تشهد أى أحداث طائفية الحزن ملأ البيوت والجميع لا يتذكرون إلا الشهداء..«خلى بالكم من ميرفانا واذكروا لها اسمى باستمرار» آخر كلمات «مينا».. وصديق «لوقا»: قلت له عُد الوضع غير آمن ولكنه طمأننا ليست «العور» وحدها.. «سوبى» و«منقريوس» و«الجبالى».. قرى تختلف أسماؤها وتتشابه مصائر أبنائها..الأهالى تعبوا من العمل «أجرية» بملاليم فى مزارع العنب وحقول البطاطس وأراضى الاستصلاح فلجأوا للسفر