استيقظ صباحه فكان يوما عاديا لا يوجد به شىء يوحى بأنه آخر يوم له على أرضنا الشقية، ربما بعض الشعور الغامض بارتفاع روحه نحو الأعلى قليلا... فالجاذبية العليا لم يكتشفها البشر بعد. عامل بسيط شاب يبلغ من العمر 37 عاما. تربى على خير الرئيس الواحد وأن العمر واحد والرب واحد، لسان حاله دائما: "خليها على الله"، بدون الأخذ بالأسباب العلمية فلا مكان للعلم هنا فى جمهورية المُهمشين والمقهورين المصريين المتحدة... يقضى يوم عمله مستمعا لأخبار فلان الذى هرب بأموال الدولة وآخر تصالح مع 17 بنكا اقترض منهم وآخر يعالج عيناه العزيزتان بمليون جنيه على نفقة الدولة...." هى الدولة متعرفش إنى هنا ولا ايه؟؟؟".... يستمع إلى ملايين تتطاير من أمامه ولا يقوى على حتى أن يلتقط بضعة منها وهو الساكن بالمنطقة العشوائية التى لا تدخلها المياه النظيفة ولا الصرف الصحى وكهرباء من العامود اللى على أول الشارع.... منافذ الفرحة بحياته محموله الذى اشتراه ودفع على مرتين بجمعية مؤجلة ووصلة دش يشترك فيها هو وجيرانه بجمهورية المهمشين المصرية... منافذ فرحته تتلخص فى عمله بشركة لها صيت يتقاضى بها راتب يتقاضاه عامل نظافة فى ثلاث ساعات "هناك بيتحاسبوا بالساعة".... مواضع ألمه إنه اعتاد على أن يستمع إلى قناة الجزيرة ويقرأ جرائد تعرى مصر تماما لتظهر أمامه بصورة مخزية يكاد فيها ينكر مصريته فى أحيان، لكنه لا يلبث أن يشعر بالحنين لها إذا أتى له لاعبو المنتخب بكأس الأمم وهزموا الجزائريين.. يتمنى أن يرى مصر أفضل حالا بأى وسيلة: نعم... لابد من وسيلة فالفساد وصل مداه والملل فاقه بكثير، ود لو صحى وجد مصر محتلة من جانب يستطيعون أن يحسنوا الأوضاع ليستقطبوا من احتلوهم"، لو الاحتلال هيجيب مية نضيفة وصرف صحى مرحبا به....". لا يهم أن يكون هناك احتلال أجنبى فهذا أفضل من الاحتلال من شرزمة معينة من المجتمع... سيأتى اليوم ونطهر مصرنا من الجميع.... يجلس إلى شيخ الزاوية التى يصلى بها تارة ليصبره "وبشر الصابرين..."، ويشعر بأنه ينتمى حقا إلى هذا الشيخ وتلك الزاوية فيتخذه وطنا بديلا، ومهما يقول له الشيخ من أفكار سيقبلها... فما أقسى الحياة فى الهامش وما أصعب أن نشعر بالغربة فى داخل أوطاننا.. "يا سيدى جمال ولا علاء ولا برادعى.... متفرقش المهم الحال يتصلح...". من مثله إذا أحبوا أو ارتبطوا كتموا حبهم خشية إملاق.... أو مارسوه بعيدا عن العيون.... كان اليوم ثقيلا فى العمل ويشعر محمد معوض بجثامة اليوم وضيق فى الصدر غامض لا يعرف مصدرا له فقد تعود على الهموم وأصبحت جزءا منه، وما يفرحه أنه سيتزوج فى غضون شهرين بعد تكاتل وكفاح وجمعيات والعمل على ميكروباص، وأحيانا توك توك.... أخيرا "هتجوز .... هتجوز".... سيكتمل وجوده ويصير له بيت وعائلة يخاف من الزمن لأجلها أكثر وأكثر حتى يظل سجينا لخوفه، وربما يخاف التعبير عن رأيه وأن يتخذ موقفا أكثر من ذى قبل "علشان عندى عيال عايز أربيهم"، دون وعى بأن "العيال" لازم تتربى على القيم مش على العيش غير الآدمى كما يشاع فى جمهورية المهمشين... دخل محمد معوض إلى حيث غرفة الصيانة وتم أخباره بأن الشركة تطلب حالا عامل الصيانة من أجل الصيانة، "أصل فيه ناس مهمة جايين عندهم وقرروا واستخاروا وتوكلوا على الله على عمل صيانة للمصعد الملصم المسنود على عود كبريت..." "هم دفعوا أخيراااااااا....". ذهب محمد معوض ليرى علة المصعد ما إن نزل إلى حيث مغارة المصعد وقرر تجربته حتى وقع ثقل المصعد على رأسه فمات على الفور، وآخر فكرة فى رأسه الشاب الخالى من الشعر الأبيض هى "كنت عارف إنه نهايتى هتكون بمهنتى.. "ونظر النظرة الأخيرة إلى قاتلته.... حديد لا يلين ويد الإهمال فوق الأيادى وتأجيل الصيانة حين ميسرة يذكرنى بأغنية فيلم حين ميسرة الواقعى الصادم، وهى تنزل على تتر نهاية حياة محمد معوض شهيد الصيانة....