الشعر وعى بالعالم وحقائق الأشياء، تفكيك وتركيب حى ودائم وخلاّق للعلاقات والتفاصيل، بما يمنحنا القدرة المتجددة على استكشاف واستكناه وسبر أغوار الجوهر، وعلى إعادة قراءة السياقات المحيطة بنا، وفق إيقاع أكثر اتصالا بالعقل والروح، وطبيعة الشاعر نفسه تتوق دومًا إلى إعادة تفكيك وتركيب الواقع، وإلى إقامة علاقات جديدة بين الصور والأعين، وتغيير زوايا الرؤية كلما كان الضوء عونًا وسندًا، لذا فمن الطبيعى أن نبحث عن الشعر فى الحرب، وعن الحرب فى الشعر، وأن نتوجه ضمن قوافل مستعيدى ذكرى حرب السادس من أكتوبر بروحها وإيقاعها. الولوج إلى عتبة التناول الشعرى لحرب التحرير وانتصارها العسكرى الكبير لا بد أن يعبر على المحطة الأم، ومنها محطة الهزيمة فى الخامس من يونيو 1967، وهى التى شكلت منعطفًا حادًا للغاية فى مسار الشعرية العربية وتصوراتها الجمالية والبنائية وانحيازاتها المضمونية والتعبيرية، ولم يتخلف شاعر واحد تقريبًا عن تناولها والاشتباك معها والتخييم أسفل ضبابها طوال ست سنوات من عمر الاحتلال، وهو ما يمنح تصورًا مسبقًا بتوق شعرى ضخم للنصر، ووقوف على قارعة الوقت انتظارًا للمشاركة فى صنعه والمشاركة فى توثيقه وتخليده أيضًا، وهو التصور الذى يتساقط دفعة واحدة، وبإيقاع مدوٍّ بمجرد الإيغال فى المدونة الشعرية العربية فى العقود الأربعة الأخيرة، لنكتشف أن الاحتفاء بالهزيمة استمر الأعلى صوتًا وصدى حتى فى حضور النصر، وأن الأمر يحتاج قراءة سيكولوجية وسوسيو إبداعية لا تركن إلى التفاسير السهلة والتبسيطية، فبإمكاننا إحالة الأمر إلى أزقة السياسة، وإلقاؤه على عاتق المفاوضات والاتفاقات التى وُقّعت مع العدو وأهانت دم الصديق، ولكن الحقيقة أن المساحة الزمنية الفاصلة بين النصر العسكرى والهزيمة السياسية - وهى ست سنوات كسنوات الاحتلال - لم تمتلئ شعرًا، ولم يُعبّدها الشعراء بالقصائد كما عبّدوا سنوات الهزيمة والاستنزاف، وأن الشعر فى هذا السياق لم يكن سيفًا مُشهرًا كما اعتدناه واعتاد هو أيضًا. كثيرون من الشعراء احترقوا بنار النكسة وتصاعد دخانهم شعرًا وكتابة تختصر الوجع، وتضع يد الدرويش على ياقوتة المشكلة ولُبها، لتلمع فى طليعة السائرين على صراط الوجع اليونيوى وجرح الخارطة العربية أسماء مهمّة، منها نزار قبانى وأمل دنقل نموذجًا، وهما اللذان صنعا جانبًا مهمًا من مشروعيهما الشعريين، واقتنصا مساحة كبرى من وعى الناس وذائقتهم ومحبّتهم عبر فضّهما لمغاليق وتعقيدات وتحجرّ الدموع فى عيون يونيو 67 وناسه، ولكنهما لم يقتربا من أكتوبر 73 وناسه بشعرهما، ولم يحتفيا بالانتصار أو يشتبكا معه تأويلاً وتحليلاً وتقييمًا بالإيجاب أو بالسلب، ليعودا مع الهزيمة السياسية التى خصمت كثيرًا من رصيد الدم والرصاص إلى تسجيل انطباعاتهما على أكتوبر. بهذا الفرز الكاشف - الذى سيصطدم به الباحث عن قصائد أكتوبرية النكهة، والعابر فى مدارات ومدونات الشعر والشعراء فى العقود الأربعة الأخيرة - لن يتبقى لنا إلا بضعة أسماء قليلة للغاية، وبضع قصائد ربما لا تصلح كمًا لتكوين رؤية مكتملة وناضجة وعميقة عما يُسمّى «شعر الحرب، أو شعر انتصار أكتوبر»، ربما يكون الأمر راجعًا إلى تحفُّظ الشعراء على التغنّى بالبهجة العرضيّة فى واقع ملتبس، أو إيمانهم بمركزية وعضوية الحزن فى معمار النفس البشرية أكثر من الفرحة، المهم أن فخ القفز على بهجة النص لم ينج منه إلا زمرة من المعدودين على الأصابع، على رأسهم صلاح عبدالصبور بقصيدته البديعة «إلى أول جندى يرفع العلم المصرى فى سيناء»، والتى يقول فيها: «تملّيناك حين أهلّ فوق الشاشة البيضاء وجهُك يلثمُ العلمَ»، يلحقه محمد إبراهيم أبو سنة بقصيدة «خفقة علم»، بينما تقف العامية المصرية موقفًا لامعًا لإضاءة هذه المنطقة وتعويض ما فوّتته الفصحى، لنجد عشرات القصائد التى تتناول الحرب والنصر بتفاصيلهما لأسماء عديدة، على رأسها فؤاد حداد، وصلاح جاهين، وعبدالرحمن الأبنودى، بل نجد بعض القصائد التى كتبها رجال الحرب أنفسهم، لعل من أجملها قصيدة الجندى الشهيد أحمد إبراهيم سالمان من قرية إخناواى فى مركز طنطا بمحافظة الغربية، والتى كتبها قبل الحرب بأيام، ويقول فيها: «يا واقف مدفعك شامخ قصادك/ ترُدّ الكلب لا ينجّس بلادك / بتاج النصر هتتوِّج جهادك/ بفضل الله وبالروح الفَتِيّة/ يا طاير فى السما ف غاية السعادة/ ومِستَنّى الإشارة من القيادة/ ترُدّ الضربة مِيّة أو زيادة/ ترجَّع إسرائيل وِشّ الأذِيّة/ هييجى اليوم ولو طال انتظاره/ وليلنا بُكره راح يطلع نهاره/ عشان إللى افترى نكويه بناره/ ونرتاح مِنّه ونفُضّ القضيّة!».