لم يتمالك الشيخ الأزهرى الجليل حين سماعه النبأ وتحير أيهما يخفى دموعه التى انسابت كسيل جارف، أم صوته الذى خانه وارتفع متشنجا، ولا تسل عن انقباض القلب الموجع الذى يعصره عصرا، أم رجفات الجسد وكأنه ألقى به من عل على حين غره. كنا صغارا لم تع عقولنا ماذا حل بالشيخ الوقور ولم نفهم حينها شيئا، إلا أن ثمة أجواء حزينة تخيم على الجميع وكبرنا وفهمنا أن الشيخ الأزهرى الطيب الذى يحمل فى صدره كتاب الله يحمل كذلك غرامه المتيم بمصر واستشعاره الخطر المحدق بها، وكأنه لا يدرى أيهما يبكى الرجل الذى ذهب مخلفا وراءه مصر فى خطر داهم أم يبكى مصر العزيزة التى تناوبت عليها المصائب من كل حدب وصوب، مشهد ترك فى أنفسنا أعظم الأثر، وعلمنا أن حب الأوطان من حب الله، وأن الفطرة السليمة هى البوصلة الدالة على الحق، لم ينضم الشيخ لتنظيم دينى، ولم نعرف له لحية أو جلبابا، وكان يستعين به جيراننا الأقباط لتعليم أولادهم اللغة العربية، وكان إسلامه فى خلقه لا فى خلقته، والذى أثار عميق تساؤلنا وحيرتنا إننا لم نر الشيخ باكيا أبدا لموت أحد إلا جمال عبدالناصر، ربما لهذا أحببناه بغير أن نراه. إن الرجل الذى يبكى لفقده بسطاء مصر لهم رجل عظيم لقد هوجم جمال عبد الناصر، وتعرض لشتى أنواع التشويه والرمى بكل نقيصة، ولكن جنازته التى لم تشهد مصر لها مثيلا جاءت ردًا صافعًا لكل من تقولوا عليه قد ينافق الناس الأحياء، أما الأموات فقد انقطعت أسباب النفاق وولت، ولم تعد ثمة فائدة ترجى من النفاق وإظهار المشاعر الكاذبة، لذلك كانت جنازة الرجل مظاهرة فى حبه واستفتاء حقيقيا بلا تزوير على مبايعته، وعظيم هو هذا الشعب الذى لديه المقدرة على فرز معادن الرجال، وإذا أحب الشعب المصرى أحدًا، فلن تستطيع قوة على ظهر الأرض أن تنتزع جذور المحبة من قلوبهم، لأنه حب لله، وفى الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، رحم الله جمال عبد الناصر بقدر محبة الملايين له، ورحم الله أبى الذى علمنا بكاؤه معنى الوطنية.