أرسلت (س) إلى افتح قلبك تقول: أنا فتاة عمرى 23 سنة, عشت أغلب حياتى فى الخليج, حيث سافر والداى للعمل هناك عندما كنت فى الرابعة من عمرى, وجاء كل إخوتى إلى الدنيا هناك, عشنا جميعا هناك لفترة طويلة حتى جاء وقت دخولى للجامعة, فعدت لأعيش مع جدتى فى مصر, ثم تلانى أخى ثم أختى ليدخلا الجامعة هم أيضا, حتى أصبحنا نحن الأربعة نعيش هنا فى مصر -فى شقتنا- بعد وفاة جدتى, بينما لا زال والداى يعملان بالخارج. حياتى مرفهة ماديا إلى حد كبير لا أنكر, لكنى دائما حزينة, حياتى تفتقد إلى الدفء والألفة والبهجة, لا أجد معظم الوقت من أتحدث معه من قلبى, لى زملاء دراسة وزملاء عمل, لكنى ليس لى أصدقاء بالمعنى الحقيقى, كما أنى بعيدة نفسيا عن إخوتى, وكذلك هم, فنحن نشأنا لكل منا عالمه الخاص, فلا نجتمع على أكل, ولا نخرج سويا, ولا حتى نسافر لوالدينا معا. أعرف أن مشكلتى لا شىء بالنسبة للكثير ممن يراسلونك, لكنى أعانى حقا, فأنا أشعر أنى أصبحت كبيرة فى السن, دائما مكتئبة, لا شىء يفرحنى أبدا, ولا أرى أن هناك شيئا من الممكن أن يبهجنى حقا, أعيش كالماكينة, أصحو كل يوم لأتناول فطورى بمفردى, وأذهب إلى عملى سريعا, ثم أعود منه لأتناول غدائى بمفردى أيضا, ثم أقضى بقية يومى أمام التليفزيون أو الكمبيوتر حتى أنام, هذه هى حياتى, حتى أيام العطل والإجازات لا أفعل فيها شيئا, لأنى لا أجد من أذهب معه إلى أى مكان. قد تعتبرى أنى فتاة مدللة وأنى أشكو من كثرة الرفاهية, وربما لن تردى على, لكنى أقسم لك أنى أعانى لدرجة أنى فكرت أن أنهى حياتى من قبل, لولا أنى أصلى وأخاف عقاب الله, فأنا فعلا لا أرى أى معنى أو فائدة لحياتى, وجودى كعدمه, وأشعر بصعوبة شديدة فى تكملة الحياة بهذه الطريقة. وإليكى اقول: أبدا لا أستطيع أن أعتبر مشكلتك تافهة, لأنك تعانى من أكبر الأزمات النفسية والإنسانية, وهى أزمة (الهوية), أو بمعنى آخر أزمة (من أنا؟ ولماذا أنا هنا فى هذه الحياة؟)... وهو أمر لا يستهان به, لكننا اعتدنا أن نعتبرها رفاهية فعلا فى مجتمعنا, نظرا لأن أغلب الناس فى بلادنا -خاصة فى هذه الأيام- يعانون من أزمات أكثر إلحاحا وقسوة, ولا تحتمل الانتظار, كأزمة البطالة, ولقمة العيش, والأمن, وغلاء المعيشة... و... و... إلى آخره من الأساسيات التى لا غنى عنها ليحيا الإنسان مستورا, لهذا فلا أحد يلتفت إلى أزمتك أو يعانى منها إلا بعد أن ينجح فى تأمين أولوياته الطبيعية فى الحياة, ويصبح مطمئنا إلى أنه سيجد المأوى والمأكل والملبس, فيبدأ بعدها فى التفكير فيما هو أبعد وأكبر من ذلك... مثلما تفكرين أنت الآن. أضيفى إلى هذا أنك وقعتى فريسة سهلة لوسواس (الحزن), ولا تتعجبى لأنى سميته وسواسا, لأنه فعلا كذلك, ولأن الحزن شىء يفرح الشيطان جدا عندما يصاب به الإنسان, ألا تصدقينى؟. لم يأت الحزن أبدا فى القرآن إلا منهيا عنه, كقوله تعالى (ولا تهنوا ولا تحزنوا), أو منفيا كقوله (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون), والسر فى ذلك أنه لا شىء أكثر قتلا وهدما وإضعافا لهمة وعزيمة الإنسان أقوى من الحزن والهم والكآبة, فهى تسلب أى إنسان مهما كان سليما ومعافى عافيته, وتفقده قلبه وروحه وعقله, فيصبح هو والجماد واحدا, كلاهما لا يفعل شيئا, وكلاهما مفعول به. لهذا استعاذ منه الرسول عليه الصلاة والسلام فى الدعاء (اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن)، وقال عنه الإمام (ابن القيم): الحزن يضعف القلب, ويوهن العزم, ويضر الإرادة, ولا شىء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن. كما قال أيضا: لا تفسد فرحتك بالقلق, ولا تفسد عقلك بالتشاؤم, ولا تفسد تفاؤل الآخرين بإحباطهم, ولا تفسد يومك بالنظر إلى الأمس. ليس لهذا وفقط يفرح الشيطان لحزن الإنسان, وإنما لسبب آخر أكثر خبثا, و و أنه طالما كان الشخص حزينا فلن يمكنه أبدا تذكر نعم الله عليه مهما كثرت, ولن يلمس أى إيجابيات فى حياته مهما بدت واضحة للآخرين, وبالتالى لن يحمد, ولن يشكر, وكلنا نعلم أن الحمد والشكر هما وسيلتا زيادة النعم وحفظها من الزوال, فيجد الشخص نفسه من سىء إلى أسوأ, ويجد نفسه يتألم ويحزن بصدق عندما يفقد أشياء لم يكن يستشعر قيمتها وأهميتها إلا بعد أن زالت منه, لأنه لم يعيها ولم يقدرها ولم يوفيها حقها من الامتنان والشكر. وأحب أن أنبهك إلى ملحوظة مهمة, وهى أن للشيطان وقتان أساسيان لا يفوتهما دون أن (ينكد عليكى)؛ وهما فور استيقاظك وبمجرد أن تفتحى عينيكى صباحا, وعند خلودك للنوم وقبل أن يغمض لك جفن, يظل يذكرك بكل ما هو بائس, وكل ما هو ناقص, وكل ما هو مقلق ومحزن, لتجدى نفسك غير قادرة على النهوض من سريرك وبدء يوم جديد ملىء بالعمل والإنتاج, أو لكى يحرمك النوم, وتقضى ليلتك ساهرة مؤرقة تجترين الهموم والأحزان, فلا يمكنك القيام بهمة فى اليوم التالى, حتى علماء النفس لاحظوا هذا الشىء, لهذا كانت نصيحتهم فكر دائما فى أشياء إيجابية فور استيقاظك من النوم, وقبل خلودك إليه مباشرة. حبيبتى أنت نعم الله عليكى كثيرة ولا شك, وأنا متأكدة أن حالك سيتغير بمجرد أن تفكرى فى شىء واحد إيجابى حدث لك كل يوم, ولا تفكرى فيه فحسب, بل واستشعريه حقا, وفكرى كيف كان حالك لو كنتى حرمتيه, وكيف كنتى ستعيشين بدونه, كفاك أنك تقومين كل يوم بكامل عافيتك وملايين غيرك لا يقوون على القيام من فراشهم, تذهبى إلى عملك وآلاف غيرك بلا عمل ولا عائل, ترفلين فى راحة مادية لا يحلم أغلب الناس بمثلها.. قدرى كل هذا, وامتنى له واشكرى عليه. حتى وإن كنتى تشعرين أنك محرومة من بعض الأشياء, إلا أن الله أعطاكى الكثير, لهذا دعينى أسألك.. ماذا أعطيتى أنت لنفسك؟ ولأهلك؟ ولمجتمعك ولمن حولك؟ لماذا لا تبحثى لنفسك عن هدف تعيشى من أجله؟ لماذا لا تخلقى لنفسك رسالة تفنين فيها عمرك؟ لماذا لا توظفى كل هذا الشباب والطاقة والصحة والفراغ فى شىء يشعرك بقيمتك وينفع غيرك؟ هذا هو السبيل الوحيد لحل أزمتك, ولا سبيل غيره. ابحثى عن دراسة, مشروع, هواية, عمل تطوعى, أو أى فكرة أخرى تستوعب تفكيرك, وتجعلك تصحين من نومك كل يوم من أجلها, حينها وحينها فقط ستشعرين بقيمتك فى الحياة, وستقدرين نعمة الصحة والوقت وفراغ البال. وامنحى بعضا من وقتك لصلة رحمك, فمن المؤكد أن أخوتك هم أيضا يفتقدونك كما تفتقديهم, ويبحثون عن الأنس والسلوى تماما كما تبحثين أنت عنهما, فلما لا تبادرى أنت وتقتربى منهم؟, لم لا تجربى وتحاولى أن تمدى بينكم حبال الود والألفة المقطوعة؟ لماذا تكتفين بالشكوى من غربتك بينهم؟ و لا تفعلى شيئا لإنهاء أو حتى تقليص هذه الغربة؟. و أخيرا أرجو منك أن تكثرى من عمل الخير... (فربما تكون نائما فتقرع أبواب السماء عشرات الدعوات لك, من فقير أعنته, أو حزين أسعدته, أو عابر ابتسمت له, أو مكروب نفست عنه... فلا تستهن بفعل الخير أبدا), هكذا قال أحد السلف. الصفحة الرسمية للدكتورة هبة يس على ال"فيس بوك": Dr.Heba Yassin