شد خليفة المسلمين سليمان بن عبد الملك الرحال إلى الأراضى المقدسة، واصطحب مع موكبه القراء والفقهاء والعلماء والمحدثين والأمراء والقادة ولما وصل المدينةالمنورة أقبل وجوه الناس وذوو الأقدار للسلام عليه مرحبين..ولكن قاضى المدينة وعالمها وإمامها وهو هذا الرجل صاحب الحلقة الخامسة التى نتحدث فيها عنه لم يأت للسلام على الملك كما فعل البقية ولما فرغ الخليفة من السلامات واستقبال المرحبين به قال لبعض أعوانه..إن النفس لتصدأ كما تصدأ المعادن اذا لم تجد من يذكرها بين الحين والآخر..فقالوا نعم يا أمير المؤمنين..فقال..أما فى المدينة رجل أدرك طائفة من صحابة رسول الله على الصلاه والسلام يذكرنا..؟قالوا بلى يا أمير المؤمنين ها هنا٭٭٭٭٭عالم المدينة وأمامها واحد التابعين.. فقال الأمير ادعوه وتلطفوا فى دعوته فذهبوا إليه ودعوه فلما أتاه رحب به وأجلسه بجواره وقال له الأمير معاتبا..ما هذا الجفاء فقال الرجل وأى جفاء رأيته منى يا أمير المؤمنين. قال الأمير..زارنى وجوه الناس ولم تزرن فقال الرجل إنما الجفاء بعد المعرفة وأنت ماعرفتنى قبل اليوم ولا انا رايتك فاى جفاء وقع منى.؟ فقال الخليفة لجلسائه..أصاب الرجل فى اعتذاره وأخطأ الخليفة فى عتبه عليه أو فى عتابه. قال الخليفة إن فى النفس شئونا أحببت أن أعلنها لك فقال الرجل هاتها يا أمير المؤمنين والله المستعان..فقال الأمير، مالنا نكره الموت..؟ فقال الرجل لأننا عمرنا دنيانا وخربنا آخرتنا فنكره الخروج من العمار للخراب. قال الأمير صدقت ثم قال ليتنى اعرف مالنا عند الله غدا...؟ قال الرجل، اعرض عملك على كتاب الله عز وجل تجد ذلك. قال الأمير وأين أجده...؟ قال الرجل فى قوله (إن الأبرار لفى نعيم.. وإن الفجار لفى جحيم). قال الخليفة.. فأين رحمه الله...؟ قال الرجل(إن رحمه الله قريب من المحسنين) قال الخليفة ليتنى أعرف كيف القدوم على الله عز وجل غدا...؟ قال الرجل..أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله..وأما المسىء فكالعبد الهارب يساق إلى مولاه سوقا...فبكى الخليفة حتى علا نحيبه.. قال الأمير كيف لنا أن نصلح...؟ قال الرجل تدعون عنكم الصلف أى التكبر وتتحلون بالمروءة. قال الخليفة.. وهذا المال السبيل إلى تقوى الله فيه...؟ قال الرجل إذا أخذتموه بحقه ووضعتموه فى أهله وقسمتموه بالسوية وعدلتم فيه بين الرعية. قال الخليفة.. وما أعدل القول يا رجل..؟ قال الرجل..كلمة حق يقولها المرء عند من يخافه وعند من يرجوه. قال الخليفة فما اسرع الدعاء أجابه...؟قال الرجل دعاء المحسن للمحسنين. قال الأمير من أكيس أى أعقل الناس..؟قال الرجل .رجل ظفر بطاعة الله ثم دل الناس عليها. فقال الخليفة من أحمق الناس...؟ قال الرجل.. رجل انساق مع هوى صاحبه.وصاحبه ظالم فباع آخرته بدنيا غيره. فقال الخليفة..هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك أى تأخذ منا وتعطينا...؟ فقال الرجل كلا...فقال الملك ولما لا...؟ قال الرجل.أخشى أن أركن إليكم قليلا فيذيقنى الله ضعف الحياة وضعف الممات. وأخذ الخليفة يسأل وصاحبنا يجيب ويعظ ويبين ثم اعتدل الرجل فى جلسته وقال للخليفة. يا أمير المؤمنين، إن الذين مضوا قبلنا من الأمم ظلوا فى خير وعافية مادام أمراؤهم يأتون علماءهم رغبة فيما عندهم.. ثم وجد قوم أراذل أى سفهاء الناس تعلموا العلم وأتوا به الأمراء، يريدون أن ينالوا به شيئا من عرض الدنيا.. فاستغنت الأمراء عن العلماء..فتعسوا ونكسوا وسقطوا من عين الله عز وجل.. ولو أن العلماء زهدوا فيما عند الأمراء لرغب الأمراء فى علمهم..ولكنهم رغبوا فيما عند الأمراء،فزهدوا فيهم وهانوا عليهم أى أسخفوهم.. وكان بيت صاحبنا الذى نتحدث عنه موردا عذبا لطلاب العلم ورغاب الصلاح واعتذر للإطالة عزيزى القارئ ولكنى أختم بنصيحة وجهها الرجل لطالب علم فقال: يا ابنى اقتدى بمن يخاف الله فى ظهر الغيب..ويعف عن التلبس بالعيب...ويصلح نفسه فى الصبا.. ولا يرجى ذلك إلى عهد الشيب. واعلم يابنى أنه ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا ويقبل على طالب العلم هواه(شهوته) وعلمه ثم يتغالبان أو يتصارعان فى صدره تغالب المتخاصمين...فاذا غلب هواه علمه كان يوم غنم له...واذا غلب هواه علمه كان يومه خسران عليه. وسأله والد الطالب واختم بهذا واعذرونى فكلام هذا الرجل يشدنى ولا اريد أن اختم ولذا استسمحكم فى آخر سؤال للرجل.يا رجل لقد حضضتنا كثيرا على الشكر فما حقيقه الشكر.؟ قال الرجل لكل عضو من أعضائنا حق علينا من الشكر..شكر العينين أن رأيت خيرا أعلنته..وان رايت شرا سترته...وشكر الأذنين أن سمعت بهما خير وعيته..وان سمعت بهما شرا دفنته. وشكر اليدين أن لا تأخذ بهما ما ليس لك وان لا تمنع بهما حق من حقوق الله...ولا يفتك أن من يقصر شكره على لسانه ولا يشرك معه جميع أعضائه وجنانه اى قلبه... فمثله مثل رجل له كساء غير انه أخذ بطرفه ولم يلبسه..فان ذلك لا يقيه من الحر ولا يصونه من البرد..وهنا أختم هذه اللمحات من أقوال وحياة الرجل وهو سلمة بن دينار المعروف بأبى حازم الأعرج.