بالمتتبع لحياة الإمام أحمد بن حنبل يراه قد بدأ مبكرا في دراسة السنة النبوية وجمعها وحفظها, وبذل في سبيل ذلك ما بذل من أسفار متعددة, ومن لقاءات متنوعة مع شيوخه. الذين كان يتوسم فيهم الحرص علي جمع ألسنة النبوية وحفظها.وكتاب المسند هو مجموعة من الأحاديث التي رواها الإمام أحمد رحمه الله وقد بدأ في جمع هذه الأحاديث وهو في السادسة عشرة من عمره. وقد قال عنه: عملت هذا الكتاب إماما, إذا اختلف الناس في سنة عن رسول الله صلي الله عليه وسلم رجعوا إليه. وقد أجهد أحمد نفسه في جمع الحديث عن الرواة الثقاة, وأنفق في ذلك معظم حياته, وكان يكتبه أولا في أوراق منفردة, ثم جمعه وأملاه علي من كتبوه من أهله. وتوفي رحمه الله قبل أن يكمله ترتيبا, وقد اشتمل هذا المسند علي أربعين ألف حديث. وقد كان ابنه عبدالله من المحبين منذ صغره لحفظ الأحاديث النبوية الشريفة ولجمعها, فكان يسمع من أبيه ومن غيره, إلا أن أكثر ما سمعه ووعاه كان من أبيه. ولقد كان الإمام أحمد يفرح, لشغف ابنه عبدالله بسماع الحديث وبحفظه وبكتابته, وكان يقول عنه ابني عبدالله محظوظ من علم الحديث, ولا يكاد يذاكرني إلا بما لا أحفظ. ولقد بلغ من منزلة عبدالله من أبيه, أن أباه كان يروي عنه, وقد أكد كثير من العلماء, أن عبدالله كان أكثر الناس رواية عن أبيه, وساهم مساهمة كبيرة في رواية المسند.. وفي نشر علمه بين الناس بعد وفاة أبيه, ثم تتابعت الأجيال في قراءة المسند وفي حفظ أحاديثه وتلقاه العلماء بالقبول, وبالمراجعة والتحقيق والتعليق. وللإمام أحمد رحمه الله كتب أخري منها كتاب الزهد وهو كتاب تحدث فيه عن زهد الأنبياء, والصحابة, وأولياء الله الصالحين, واشتمل هذا الكتاب علي كثير من الأحاديث, والآثار, والأخبار, والمواعظ والحكم.. وله أيضا كتاب الصلاة وهو كتاب تحدث فيه عن فضائل الصلاة وآدابها.. وذكر له بعض العلماء كتبا أخري هي: المناسك الكبير والصغير, والناسخ والمنسوخ, وفضائل الصحابة, وغيرها. وللإمام أحمد إلي جانب ذلك رسائل كتبها في أمور معينة, منها: الرسالة التي كتبها في القرآن, وقد كتبها بناء علي وصية من الخليفة المتوكل الذي أراد أن يعرف رأي الإمام أحمد في القرآن, بعد زوال المحنة التي تعرض لها الإمام أحمد في هذه المسألة. وقد جاء فيها اسأل الله أن يديم توفيق أمير المؤمنين, فقد كان الناس في خوض من الباطل, حتي أفضت الخلافة إلي أمير المؤمنين, فنفي الله بأمير المؤمنين كل بدعة, وأنجلي عن الناس ما كانوا فيه من الذل وضيق المحابس, فصرف الله ذلك كله, ووقع ذلك من المسلمين موقعا عظيما, وأدعو الله تعالي لأمير المؤمنين أن يزيد في نيته, وأن يعينه علي ما هو عليه. ثم ساق رحمه الله جملة من النصوص التي تنهي عن الخلاف والنزاع في تفسير القرآن, ومن ذلك قوله: عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض, فإن ذلك يوقع الشك في قلوبكم. وذكر عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلي الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا؟ وقال آخرون: ألم يقل الله كذا؟. فسمع رسول الله صلي الله عليه وسلم قولهم, فخرج كأنه فقئ في وجهه حب الرمان فقال: أفبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض: إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا ثم قال: انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به, وانظروا الذي نهيتم عنه فانتهوا عنه. وقال فروة بن نوفل الاشجعي: كنت جارا لخباب بن الأرت رضي الله عنه فخرجت معه يوما من المسجد وهو آخذ بيدي فقال لي: يا هذا تقرب إلي الله بما استطعت, فإنك لن تتقرب إلي الله بشئ أحب إليه من كلامه. وقال معاوية بن قرة رحمه الله : إياكم والخصومات فإنها تحبط الأعمال.. ولا تجالسوا أهل الأهواء فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم, ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون.. ومن رسائله أيضا رسالته في الرد علي الجهمية, وقد جاء فيها: الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم, يدعون من ضل إلي الهدي, وينهونه عن الردي.. ينفون عن دين الله عز وجل تحريف الغالين, وانتحال المبطلين, وتأويل الضالين الذين عقدوا ألوية البدع, وأطلقوا عنان الفتنة. .... وأوصيكم ونفسي بتقوي الله, ولزوم سنة رسوله, فقد علمتم ما حل بمن خالفها, وما جاء فيمن اتبعها.. وآمركم ألا تؤثروا علي القرآن شيئا.. فإنه كلام الله عز وجل وما تكلم الله به فليس بمخلوق, وما أخبر به عن القرون الماضية فغير مخلوق.. ثم من بعد كتاب الله تعالي سنة نبيه محمد صلي الله عليه وسلم والحديث عنه وعن المهديين من أصحابه.. واحذروا رأي جهم بن صفوان فإنه صاحب كلام وخصومات ومن أتباعه الذين يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة.. واعلموا أن الإيمان قول وعمل, يزيد وينقص, زيادته إذا أحسنت ونقصانه إذا أسأت.. ثم ختم رحمه الله هذه الرسالة بمهاجمة الفرق المبتدعة, وبالدعوة إلي العمل بالقرآن وبسنة الرسول عليه الصلاة والسلام وللإمام أحمد رحمه الله بعد كل ذلك كلمات حكيمة منها قوله: الناس يحتاجون إلي العلم مثل الخبز والماء. وقوله: لا تكتبوا العلم عمن يأخذ عليه عرضا من الدنيا. وقوله: إذا رأيتم من يحب الكلام أي الكلام الباطل فاحذروه. وقوله: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام. وقوله: إذا رأيتم رجلا يتهم أحدا من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم بسوء فهو بعيد عن الإسلام. وقوله: الفائز من فاز غدا, ولم يكن لأحد عنده تبعة. هذه لمحة عن كتب الإمام أحمد رحمه الله وعن وصاياه ورسائله, وعن كلماته الحكيمة.