سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أهالى غرب الإسكندرية يواجهون الموت بأمراض الصدر.. مصانع أسمنت أجنبية تستورد خامات تصيب ب"تحجر رئوى".. ال"كلنكر" الرخيص يتم تخزينه وسط الكتلة السكانية.. وتقرير: التلوث الناتج عنه 3 أضعاف المسموح به
أمام منزله الصغير بمنطقة أم زغيو، المقابلة لملاحات شركة المكس بالإسكندرية، يقف الأب «كامل علوانى» على درجات سلمه محاولا إزالة الغبار المتطاير على نوافذ بيته بقطعة قماش تحول لونها إلى السواد. على نوبة سعال شديدة لطفلته الصغيرة، ينزل علوانى من على سلمه مهرولا إلى داخل غرفة نومها بالبيت ليجد ابنته كادت أن تنضم إلى تعداد الموتى من شدة السعال. حلا كامل علوانى، البالغة من العمر سبعة أشهر، أصبحت ضيفا دائما على المستشفيات والعيادات الخاصة، تعانى الطفلة من ضيق الشعب الهوائية وحساسية الصدر بسبب استنشاق الأتربة والأبخرة الملوثة للهواء، حسبما قال الأطباء ممن وقعوا الكشف الطبى عليها، وأضافوا أنها لم تستجب للعلاج سريعا خلال الأشهر الأربعة الماضية مما ينذر بكارثة صحية. حلا ليست إلا واحدة من بين نحو 50 ألف نسمة يقطنون منطقة أم زغيو التابعة لحى العجمى بالمنطقة الغربية لمحافظة الإسكندرية والتى تتخذ منها شركة الإخلاص للنقل مقرا لتخزين مادة «الكلنكر» وهى من المواد التى تدخل فى خانة المواد الأولية اللازمة لتصنيع الأسمنت وتوصف بكونها خطيرة جدا على البيئة وصحة المواطنين. إحدى شركات النقل استأجرت نحو 10 آلاف متر مربع منذ أكثر من 18 شهرا مع نهاية العام 2012 من إحدى العائلات الشهيرة بأم زغيو وحولتها إلى ساحات لتخزين خام الكلنكر الذى يستوعب نحو 10 آلاف طن تقريبا. «بنتى تعبت ومش ملاحق عليها علاج ولا كشف، بسبب تراب الكلنكر اللى لوث الهواء» هكذا يكمل علوانى حديثه ل«ليوم السابع»، بعدما أغلق نوافذ وأبواب منزله الواقع على طريق أم زغيو العامرية، لتجنب الغبار الأسود المتطاير من ناحية أكوام الكلنكر المشونة فى مخازن بالجهة المقابلة للمنزل. على هذا الطريق تتحرك سيارات نقل كبيرة قادمة من ميناء الدخيلة، بعد أن حملت حصتها من شحنة الكلنكر السائب البالغة نحو 45 ألف طن القادمة من إسبانيا على متن الباخرة «ينمتس تو» لصالح شركات أسمنت أجنبية تعمل فى السوق المصرية. تقطع سيارات النقل نحو 7 كيلومترات مخترقة الشارع الرئيسى بمنطقة الكيلو21 بالعجمى، مارة من أمام جهاز شؤون البيئة بالمنطقة لتبدأ فى الدخول إلى منطقة أم زغيو حتى تصل إلى أماكن تخزينها. فى نهاية شارع خاص لا يتجاوز طوله 300 متر يعرف باسم بوابة 8 المتفرع من طريق أم زغيو العامرية تمتد ساحات مفتوحة غير مسورة يعرفها الأهالى باسم ساحات تخزين الكلنكر التى تمتد بالتوازى من الناحية الجنوبية بنحو 500 متر مع مياه ملاحات شركة المكس، فيما تجاورها من الناحيتين الشمالية والغربية أرض فضاء فى حين أن الطريق يحدها من الناحية الشرقية. تتكوم داخل المخزن أكوام رمادية اللون من الكلنكر ما بين حبيبات وتراب ناعم، تمتد بارتفاع يصل إلى نحو 12 مترا دون أغطية مما يجعلها فى انتظار رياح قادمة من أى اتجاه لتحمل معها الغبار لتتركه بداخل صدور أهالى المنطقة أو تترك بقاياه على مياه الملاحة. الآن حان وقت تحميل الكلنكر ليصل إلى مستورده الأصلى فى مصانع الأسمنت، يرفع اللودر شوكته المحملة بخام الكلنكر إلى المقطورة حتى تكتمل حمولتها فيحدث انبعاث هائل للأتربة والغبار لتكون سحابة كثيفة رمادية اللون لتبدأ المقطورات بالتحرك تباعا لتشق طريق أم زغيو - العامرية تتأرجح المقطورات لعدم استواء الطريق الممتلئ بالمطبات والحفر، فتبدأ كميات من الحمولة المكشوفة فى التساقط محدثة غباراً وأتربة مما يزيد من كثافة السحابة رمادية اللون الناشئة عن التحميل، التى تترك آثارها السوداء على جدران ووجهات المحال والمنازل. يقول صافى محمد، أحد سكان المنطقة وصاحب أحد البلاغات المقدمة ضد الشركة التى تخزن الكلنكر: تتطاير كل يوم أتربة وغبار كثيف من المخازن بسبب الحركة المستمرة لتحميل الخام وأيضا لعدم إقامة أصحاب المخزن أسوارا حول ما يقومون بتخزينه، بالإضافة إلى عدم تغطية السيارات المحملة بالكلنكر بمشمع أو الخيش حتى يمنعها من التساقط وهو ما يؤدى إلى إصابة أهالى المنطقة بأمراض الربو والحساسية والرمد. ويضيف: جاءت فكرة تشوين الكلنكر بهذه المنطقة لقربها من ميناء الدخيلة وتفاديا لغرامات التأخير التى تفرضها إدارات الموانئ على السفن والبواخر التى تتأخر فى تفريغ حمولتها ومغادرة الميناء، مشيرا إلى أن مساحة تلك المخازن التى تتجاوز ثلاثة أفدنة تم الاستحواذ عليها نتيجة عمليات ردم غير قانونية لمياه ملاحات المكس الشهيرة. تشترط المادتان 34 و35 من قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994 المعدل بقانون رقم 9 لسنة 2009 أن يكون الموقع الذى يقام عليه المشروع مناسبا لنشاط المنشأة بما يضمن عدم تجاوز الحدود المسموح بها لملوثات الهواء، وأن تكون جملة التلوث الناتج عن مجموع المنشآت فى منطقة واحدة فى الحدود المصرح بها، وأن تلتزم المنشآت الخاضعة لأحكام هذا القانون فى ممارستها لأنشطتها بعدم انبعاث أو تسرب ملوثات للهواء بما يجاوز الحدود القصوى المسموح بها فى القوانين والقرارات السارية، فى حين أثبت التقرير الصادر من جهاز شؤون البيئة بالإسكندرية زيادة نسبة الأتربة الصدرية القابلة للاستنشاق «pm10» بثلاثة أضعاف الحدود المسموح بها، حيث قال التقرير، إن القياس داخل ساحة تخزين خام الكلنكر الخاصة بشركة الإخلاص للتخليص الجمركى والنقل، أثناء تعبئة سيارات النقل بخام الكلنكر بواسطة اللودر يشير إلى ارتفاع الأتربة الصدرية القابلة للاستنشاق إلى 9.7 مليجرام/متر3 فى حين أن الحدود المسموح بها 3 مليجرام/متر3 طبقا للملحق رقم 8 من اللائحة التنفيذية للقانون رقم 4 لسنة 1994 والمعدلة بالقانون 9 لسنة 2009، وأضاف التقرير عدم وجود رخصة لإقامة مخزن يحتوى على تشوينات لخام الكلنكر بتلك المنطقة نظرا لاكتظاظها بالسكان. وأشارت التقارير الطبية لعدد من سكان المنطقة المحيطة بمخازن الكلنكر بأم زغيو إلى إصابة العديد منهم بأمراض الحساسية على الصدر وضيق الشعب الهوائية والربو نتيجة تعرضهم لاستنشاق أتربة ملوثة، حيث أصيب أحمد كرم، البالغ من العمر نحو 10 سنوات، وأيضا الطفلة سلمى علوانى البالغة نحو 4 سنوات بحساسية على الصدر. كرم محمد، صاحب سوبر ماركت، بالقرب من مخازن الكلنكر ووالد الطفل أحمد قال: الحياة بمنطقة أم زغيو أصبحت بالغة الصعوبة بعد انتشار تخزين مادة الكلنكر، فبالإضافة إلى وجود هذا المخزن فإن عددا من مخازن الكلنكر ينتشر بالمنطقة، مضيفا أن معدل الإصابة بحساسية الصدر والربو وأمراض الرئة قد انتشر بين الأهالى. ويضيف كرم: قبل ستة أشهر فوجئت ب«أحمد» يعانى من نوبة سعال شديدة لم تفلح معها أدوية الكحة، فقمت بعرضه على عدد من الأطباء الذين قالوا إنه يعانى من حساسية على الصدر وأرجع أحدهم ذلك إلى أنه قد يكون قد ورث المرض عن أحد والديه، إلا أن كرم نفى إصابته أو زوجته بالمرض، مضيفا أن التقارير الطبية والفحوصات أشارت إلى تعرضه لأتربة ملوثة بكثافة. فيما يؤكد شعبان محمد، أحد سكان المنطقة، أن السماح باستمرار تشوين الكلنكر بالقرب من المنطقة السكنية رغم حظر منظمة الصحة العالمية لتصنيعها فى أى مكان مكشوف كارثة إنسانية لا يمكن تجاهلها، وأضاف قائلا: إن دول العالم امتنعت عن تصنيع هذه المواد بعدما وجدت أن تكلفة علاج العاملين بها أصبحت أكثر من تكلفة تصنيعها، ويشير إلى الخطورة المتزايدة فى المنطقة التى تعانى من ارتفاع نسبة التلوث بصورة كبيرة وخطيرة على صحة المواطن، مضيفا أن النتيجة المباشرة لانتشار مخازن تشوين الكلنكر هى التعرض لاستنشاق غبار الأسود، حيث تم الكشف عن العديد من الحالات التى أصيبت بالحساسية والربو. وأضاف: توجهنا إلى مسؤولى البيئة بالمحافظة وقدمنا العديد من الشكاوى وقمنا بتحرير أكثر من محضر ضد الشركة التى تخصصت فى تصدير التلوث لنا إلا أن مسؤولى البيئة قاموا بإخطارنا بأن دورهم ينتهى بتحرير المحاضر بعدها توجهنا إلى مسؤولى المحافظة وتلقوا شكوانا لكن دون جدوى. بينما قال المهندس أسامة عبدالعزيز، رئيس مجلس إدارة شركة المكس للملاحات، إن هناك ساحات لتشوين وتخزين خام الكلنكر تلاصق الحدود المائية للملاحة وينتج عن تداولها غبار كثيف يسقط بدوره فى المحلول الخاص بإنتاج الملح ثم يترسب ليستقر على سطح الملح مما يؤدى إلى تغير لون الملح، وهو ما يضطر الشركة لإخضاع الملح إلى عدة عمليات تنقية تبدأ بعملية كشط الطبقة العالق بها الكلنكر أو أى ملوثات أخرى ثم إخضاعه مرة أخرى إلى عملية غسيل للتخلص من الشوائب الذائبة أو غير الذائبة ثم تنقية مضاعفة للتأكد من خلو الملح من إى ملوثات. ويضيف عبدالعزيز: كثرة عمليات التنقية تعظم من قيمة الفاقد من الملح الذى قد يصل فى بعض الأحيان إلى %35 أى أكثر من ثلث الإنتاج، على الرغم من أن النسبة المحددة يجب ألا تتجاوز %10 من الإنتاج، بالإضافة إلى تحمل تكاليف إضافية فى تنقية الملح وغسيله للوصول إلى المواصفات القياسية المصرية والعالمية، وهو ما دفعنا إلى اتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم. من جانبه استنكر أحمد الزينى، رئيس شعبة تجار مواد البناء بغرفة القاهرة التجارية استيراد مادة الكلنكر الخام غير المغلف أو المعبأ من الخارج ثم تشوينه وسط المناطق السكنية دون الاهتمام بصحة أهالى تلك المناطق، مضيفا أن هيئة ميناء دمياط منعت دخول الكلنكر إلى مصر عبر ميناء دمياط بسبب التلوث الذى يحدثه فى الميناء. وشدد الزينى على ضرورة نقل الكلنكر مباشرة إلى مصانع الأسمنت فى حال استيراده من الخارج وأيضا استيراده مغلفا داخل «جامبوهات» للحد من آثاره البيئية السلبية التى تضر القائمين على تخزينه أو الذين يتعرضون له، موضحا أن شركات الأسمنت تجبر على تخزينه بعيدا عن العاملين بمصانعها على مسافة تصل إلى نحو 2 كيلو متر. وكشف الزينى عن أن حجم استيراد الكلنكر من الخارج خلال الشهرين الماضيين بلغ نحو 750 ألف طن، لصالح الشركات الأجنبية التى تستورد المادة الخام اللازمة لتصنيع الأسمنت من الخارج بسعر لا يزيد عن 50 دولاراً للطن لاستغلالها فى ظل ارتفاع أسعار الأسمنت والتى وصلت إلى نحو 850 جنيهاً للطن بعد أن استقر سعره عند 550 جنيهاً لفترة طويلة، وهو ما يساعدها فى تحقيق أرباح باهظة، مشيرا إلى أن الاستيراد مستمر منذ عام 2009 لكن بكميات قليلة، مطالبا بضرورة وضع عراقيل على استيراد الشركات لمادة الكلنكر. الدكتور محمود حويحى، أستاذ الصحة العامة بمعهد الدراسات والبحوث البيئة بجامعة عين شمس، قال: إن الكلنكر يتسبب فى الإصابة بالحساسية والربو وضيق الشعب على المدى القريب فى حين أنه يتسبب بالإصابة بالتحجر الرئوى على المدى البعيد، مشيرا إلى أن آثاره المباشرة تظهر من خلال جدران ووجهات المحلات التى يتغير لونها إلى الأسود نتيجة التصاق وترسيب أتربة وغبار محمل بالكلنكر.