"جلس جمال عبد الناصر وحيدا فى غرفة منزله، واضعا رأسه بين كفيه، ومتمتما بكلمات قليلة صدرت فى تلك اللحظة بإحساس غريزى بأكثر مما صدرت بحكم معلومات قاطعة، لقد دخل عليه أحد كبار مساعديه فسمعه هو يتمتم كما لو كان يكلم نفسه: "لقد عرفوا كيف يصطادونى"، هكذا يكشف الكاتب الصحفى محمود عوض فى كتابه "اليوم السابع- الحرب المستحيلة حرب الاستنزاف"، عن أحد المشاهد الدرامية التى حدثت بسبب نكسة 5 يونيو 1967. "اصطياد عبد الناصر" كان هدف أمريكا وإسرائيل، وظنا أن ما حدث فى 5 يونيو هو طريق الاستسلام لمخطط إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، كان "التليفون" والجلوس بجواره ضمن الأشياء التى ترددت وقتئذ، جلس الرئيس الأمريكى "جونسون" بجواره، وفعل نفس الشىء "موشى ديان" وزير الدفاع الإسرائيلى، وذلك انتظارا لشىء ما. كان الجلوس بجوار التليفون من قادة إسرائيل وأمريكا يعنى شيئا واحدا عندهما وهو تنفيذ ما يطمحون إليه وهو "استسلام جمال عبد الناصر"، وفى مثل هذا اليوم "16 يونيو 1967" وطبقا لما يذكره الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى كتابه "الانفجار": "قال موشى ديان إنه جالس على الضفة الشرقية من قناة السويس فى انتظار أن يدق جرس التليفون حاملا إليه طلبا من الجانب الآخر من القناة (جمال عبد الناصر)، يقول فيه إنه على استعداد للجلوس معه على مائدة مفاوضات لبحث شروط الصلح. تصريح "ديان" صدرته صحف العالم، وجاء فى سياق سياسى عام يصفه محمود عوض: "كانت إسرائيل تريد أن تفرض شروط المنتصر لأنه ليس أمام العالم العربى من بديل سوى الإذعان، وأول ما تطلبه إسرائيل هو أن يأتى إليها العرب على مائدة التفاوض المباشر". انتظار "ديان" تزامن مع كلام "أبا إيبان" وزير خارجية إسرائيل: "إن ما تريده إسرائيل (الآن) بسيط جدا، وما تريده هو الأمن والسلام"، ويعلق "عوض" على ذلك: "حتى لا يقع أحد ضحية البراءة الظاهرة للكلمات، فإن "إيبان" يستدرك بسرعة قائلا: "لكن الأمن والسلام لهما مضمون إقليمى يتعلق بالأرض". كان "الانتظار إلى جوار التليفون" موجودا فى ضفة أخرى من العالم، ففى "واشنطن" جلس "جونسون" ينتظر مع مستشاريه المكالمة التى تحمل خبر انهيار مصر من الداخل بانقلاب عسكرى، أو بإفلاس اقتصادى، أو بثورة شعبية، أو بكل هذا معا، فتلك هى المقدمة التى لا يمكن بغيرها المضى فى "إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط". الانتظار بجوار "التليفون" كان يعنى حسب قول "عوض": "الطموحات الإسرائيلية افترضت أن مصر قبلت نتائج حرب يونيو باعتبارها الكلمة الأخيرة، ولن تفكر مطلقا فى إعادة بناء جيشها، كما أنها لن تتمكن من ذلك، وسوف يتجرع عبد الناصر، أو من يحل محله مرارة التقوقع داخل عزلة يدعمها العالم العربى، لكن بدلا من الانهيار حدث العكس، وتمسك المصريون والعرب ب"عبد الناصر" الذى لم يقترب من التليفون.