أولاً: حكم صوت المرأة لا يختلف الفقه فى مشروعية تعامل المرأة فى المجتمع بصفتها إنسانة مكرمة لها حق التبايع والتقاضى والاستفتاء وطلب العلم والتداوى وبذلهما والمشاركة مع الرجل فى إعمار الأرض، كما قال تعالى: «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» (هود: 61).. وهذا لا يتأتى إلا بحديث المرأة مع الرجل فى الجملة، ولذلك لم ينكر الفقهاء صوت المرأة فى حديثها المعتاد مع الرجال الأجانب لقضاء مصالحها المشروعة.. يقول ابن عابدين فى «حاشيته»: «لا يظن من لا فطنة عنده أنا إذا قلنا صوت المرأة عورة أنا نريد بذلك كلامها، لأن ذلك ليس بصحيح فإنا نجيز الكلام مع النساء للأجانب ومحاورتهن عند الحاجة إلى ذلك»، وإنما الخلاف بين الفقهاء، كما حرره ابن عابدين، فى حكم: «رفع أصوات النساء وتمطيطها وتليينها وتقطيعها».. ويمكن إجمال أقوال الفقهاء فى ذلك فى مذهبين، كما يلى: المذهب الأول: يرى عورة صوت المرأة، إذا كان على وجه التمطيط والتليين والتقطيع، وهو الراجح عند الحنفية والمشهور عند المالكية، ووجه عند الشافعية ورواية عند الحنابلة، وحجتهم: «1» عموم قوله تعالى: «ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن» (النور: 31). قالوا: فإذا منعت المرأة من صوت الخلخال، فإن منعها من رفع صوتها أبلغ فى النهى. «2» عموم ما أخرجه مسلم عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء». قالوا: وفى منع المرأة من التسبيح فى الصلاة دلالة على عورة صوتها؛ خاصة مع ما أخرجه الترمذى وحسنه، وصححه الألبانى، عن عبدالله بن مسعود، أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان». «3» أن صوت المرأة بالتمطيط والتليين والتقطيع يستميل الرجال إليها بما يحرك شهواتهم منها. المذهب الثانى: يرى أن صوت المرأة ليس عورة مطلقًا، وهو قول بعض الحنفية والمالكية، وهو الأصح عند الشافعية «حتى قال أبوثور ت 240 ه والمزنى ت 264 ه بصحة إمامة المرأة للرجال، وهو قول ابن جرير الطبرى ت 310ه» والرواية الثانية عند الحنابلة، وهو مذهب الظاهرية «حتى إن ابن حزم نص فى (المحلى) على أن النساء إذا أذن وأقمن فحسن». وحجتهم: عموم قوله تعالى: «وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها» (الأحزاب: 50). قالوا: ومثل هذا العرض لن يكون بخشن الكلام. «2» عموم قوله تعالى: «وما جعل عليكم فى الدين من حرج». قالوا: وإلزام المرأة بتغليظ صوتها، وعدم تركها لطبيعتها فى التعامل بحسب مقتضاه فيه حرج عليها. «3» عموم ما أخرجه الشيخان عن سعد بن أبى وقاص، قال: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يسألونه، ويستكثرنه، عاليةً أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب، فأذن له النبى، صلى الله عليه وسلم، فدخل والنبى صلى الله عليه وسلم يضحك.. فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، بأبى أنت وأمى.. فقال صلى الله عليه وسلم: «عجبت من هؤلاء اللاتى كن عندى، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب». فقال عمر: أنت أحق أن يهبن يا رسول الله، ثم أقبل عليهن فقال: يا عدوات أنفسهن أتهبننى ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: إنك أفظ وأغلظ من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إيهًا يا ابن الخطاب، والذى نفسى بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا قط إلا سلك فجًا غير فجك».. واختلف المؤولون فى دلالة هذا الحديث الظاهرة، فمن قائل إن ذلك كان قبل فرض الحجاب. ولا دلالة عليه، وعلى التسليم فلماذا احتجبن من عمر؟ ومن قائل لعل فى هؤلاء النسوة من يجوز لها الكشف عند عمر كحفصة. ولا دلالة عليه أيضًا، وعلى التسليم فلماذا لم يحتجبن فى حضرة النبى صلى الله عليه وسلم؟ «4» أن النهى عن ضرب الخلخال عند مشى المرأة لا دلالة فيه على عورة صوتها، وإنما هو من بيان الآداب العامة فى الطريق، كما أن جعل التصفيق للنساء فى الصلاة لا دلالة فيه على عورة صوتها، وإنما هو من باب التنظيم لتنبيه الإمام، و أما حديث الترمذى الذى ينص على أن «المرأة عورة» فهذا للجسد وليس للصوت. ثانيًا: حكم الغناء للترويح عن النفس إذا لم يكن الغناء بداعية الحرام قصدًا كالذى يدعو إلى ارتكاب جريمة، أو بداعية الحلال قصدًا كما ورد فى احتفالات العيد والعرس وقدوم الغائب وتسلية المسافر، فقد اختلف الفقهاء فى حكم الغناء فى حال الترويح عن النفس على ثلاثة مذاهب فى الجملة. المذهب الأول: يرى تحريم الغناء لمجرد الترويح عن النفس. وهو مذهب الحنفية وبعض المالكية والشافعية والحنابلة، وهو مروى عن عبدالله بن مسعود وتابعه جمهور علماء أهل العراق منهم النخعى والشعبى والثورى وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وحماد والحسن البصرى، وهو قول فقهاء المدينة غير إبراهيم بن سعد. وحجتهم: «1» عموم قوله تعالى: «ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا أولئك لهم عذاب مهين». (لقمان: 6). قال ابن عباس وابن مسعود: لهو الحديث هو الغناء. «2» عموم ما أخرجه أبوداوود بإسناد ضعفه الألبانى عن عبدالله بن مسعود، وأخرجه البيهقى موقوفًا عليه ومرفوعًا إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، والموقوف أصح، أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: «الغناء ينبت النفاق فى القلب كما ينبت الماء البقل»، وفى رواية: «كما ينبت الماء الزرع». «3» عموم ما أخرجه ابن حبان وأحمد وابن ماجه بسند ضعفه شعيب الأرناؤوط وصححه الألبانى عن أبى مالك الأشعرى، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «يشرب ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها يضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير». والمقصود بالقينات الإماء المغنيات، جمع قينة- بفتح القاف وسكون الياء- وهى المغنية. «4» عموم ما أخرجه الطبرانى عن عقبة بن عامر، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «كل شىء يلهو به الرجل فهو باطل إلا تأديبه فرسه ورميه بقوسه وملاعبته امرأته». وأخرجه أبوداوود والنسائى بسند ضعفه الألبانى بلفظ: «ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله». «5» عموم ما أخرجه ابن ماجه بسند حسنه الألبانى عن أبى أمامة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المغنيات وعن شرائهن وعن كسبهن وعن أكل أثمانهن». وأخرجه الطبرانى عن أبى أمامة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا تجارة فيهن، وثمنهن حرام». وقال: «إنما نزلت هذه الآية فى ذلك «ومن الناس من يشترى لهو الحديث» (لقمان: 6)، ثم قال: «والذى بعثنى بالحق ما رفع رجل عقيرته بالغناء إلا بعث الله عز وجل عند ذلك شيطانين يرتقدان على عاتقيه ثم لا يزالان يضربان بأرجلهما على صدره- وأشار إلى صدر نفسه- حتى يكون هو الذى يسكت». المذهب الثانى، يرى كراهة الغناء لمجرد الترويح عن النفس، فإن كان سماعه من امرأة أجنبية فهو أشد كراهة، وقد يبلغ درجة التحريم عند من يرى عورة صوت المرأة، وهذا المذهب قال به الإمام أبوحنيفة فى رواية، وإليه ذهب أكثر المالكية والشافعية وبعض الحنابلة، وهو قول أكثر فقهاء البصرة. وحجتهم: هى أدلة من قال بتحريم الغناء للترويح عن النفس، ولكنهم حملوا الدلالة على الكراهة وليس التحريم بقرينة مشروعية الغناء فى الأعياد والأعراس. قالوا: ولأن الغناء مخل بالمروءة. المذهب الثالث: يرى إباحة الغناء لمجرد الترويح عن النفس. وهو قول بعض الشافعية منهم الإمام أبوحامد الغزالى، وبعض الحنابلة منهم أبوبكر الخلال وصاحبه أبوبكر عبدالعزيز، وهو مذهب الظاهرية ونصره ابن حزم. وهو مروى عن عمر وعثمان وابن عمر وعبدالرحمن بن عوف وعمران بن حصين وأسامة بن زيد ومعاوية بن أبى سفيان والمغيرة بن شعبة وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن جعفر وإبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبرى وعطاء بن أبى رباح، وغيرهم. وحجتهم: «1» عموم قوله تعالى: «الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبًا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم» (الأعراف: 157). وعموم قوله تعالى: «ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات» (الإسراء: 70). يقول البيضاوى فى تفسيره: الطيبات أى المستلذات مما يحصل بفعلهم وبغير فعلهم. «2» ما أخرجه أحمد والحاكم وصححه عن فضالة بن عبيد الأنصارى، أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: «لله أشد أذنًا للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته». قال ابن طاهر: لا يجوز أن يكون المقيس عليه فى الحديث- وهو سماع القينة وهى المغنية- محرمًا. «3» قياس الغناء للترويح عن النفس على الغناء المشروع فى العيد والعرس وقدوم الغائب وتسلية المسافر بجامع الحاجة الإنسانية فى كل. «4» أن المقصود بلهو الحديث فى قوله تعالى: «ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم» (لقمان: 6) هو ما يكون بدلًا عن الدين. أما الغناء دون بيع الدين فليس مضلًا عن سبيل الله، كما أن قراءة القرآن الكريم ليضل به عن سبيل الله من بيع الدين المحرم. وهذا ما ذكره الغزالى فى «الإحياء». ويقول ابن حزم فى «المحلى»: «إن قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما فى بيان معنى «لهو الحديث» فى الآية لا حجة فيه؟ إذ لا حجة فى أحد دون رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ولأن قولهم هذا قد خالف غيرهم من الصحابة والتابعين. ولأن الذم فى الآية وارد على من اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا. وما ذم الله تعالى من اشترى لهو الحديث ليتلهى به ويروح به عن نفسه، لا ليضل عن سبيل الله تعالى». «5» أن الأحاديث الواردة فى ذم القينات ضعيفة الإسناد فى الجملة، وعلى التسليم بصحتها، فهى محمولة على اللاتى تغنين بما يدعو إلى ارتكاب الفاحشة ونحوها، أو ما يصاحب الغناء من فعل الحرام كشرب الخمر ونحوه. «6» أن الترويح عن النفس فى ذاته ليس منهيًا عنه، فقد أخرج مسلم عن حنظلة الأسيدى، وهو من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كنا عند رسول الله فوعظنا فذكر النار، ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له، فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر، فلقينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، نافق حنظلة. فقال: «مه»؟ فحدثته بالحديث، فقال أبوبكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل. فقال صلى الله عليه وسلم: «يا حنظلة ساعة وساعة، ولو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم فى الطرق». وقد اختار المصريون فى مسألة صوت المرأة بالتمطيط والتليين والتقطيع قول بعض الحنفية والمالكية والحنابلة وهو الأصح عند الشافعية ومذهب الظاهرية الذين قالوا إن صوت المرأة ليس عورة لما رأوه من التوسعة على النساء دون الإضرار بعرضهن، وذلك فى المناسبات الآمنة عرفًا. وترك المصريون مذهب جمهور الفقهاء الذين قالوا بعورة صوت المرأة فى الأحوال المذكورة مطلقًا، لعدم قوة أدلتهم فى دلالة التحريم، فأبى المصريون التضييق على النساء لمجرد الظنية بالتحريم عند أصحاب هذا القول. كما اختار المصريون فى مسألة الغناء للترويح عن النفس مذهب الظاهرية وقول بعض الشافعية، ومنهم أبوحامد الغزالى، وبعض الحنابلة، ومنهم أبوبكر الخلال، وما ورد عن بعض السلف منهم عمر وعثمان وابن عمر وعبدالرحمن بن عوف وأسامة بن زيد ومعاوية والمغيرة بن شعبة وغيرهم الذين قالوا بإباحة الغناء لمجرد الترويح عن النفس؛ لقناعتهم بأنه لو كان محرمًا لورد النص على تحريمه صراحة كتحريم أكل الميتة ولحم الخنزير، أما لهو الحديث المنهى عنه فى الآية الكريمة فهو خاص بحال إضلاله عن سبيل الله ككلمات الأغانى التى تدعو إلى الشرك بالله أو إلى ارتكاب الفاحشة ونحوها من الجرائم. أما ما يكون ترويحًا عن النفس بغير معصية فليس منهيًا عنه؛ لما أخرجه مسلم عن حنظلة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «ساعة وساعة»، وترك المصريون مذهب جمهور الفقهاء الذى يرى تحريم الغناء للترويح عن النفس أو كراهته، خاصة إذا كان من المرأة، لأنه قول يعتمد على اشتقاق حكم التحريم من احتمالات لفظية وليس بنصوص صريحة، ولأن كثرة الفقهاء القائلين بحكم معين لا يعنى عصمتهم فلا يزال قولهم مع كثرتهم صوابًا يحتمل الخطأ، مما يجعل الحق لعموم المسلمين أن يختاروا القول الفقهى الذى يناسبهم ويرفع عنهم الحرج بكل ثقة وأمان دون الخوف والارتعاش من علو صوت القائلين بالتحريم، وكأنهم يزايدون فى دينهم على الفقهاء والصحابة القائلين بمشروعية الغناء للترويح عن النفس. إن الفقه كالدين لا يفرض على الناس غلابًا، وإذن الشارع بالتعددية الفقهية رحمة بالناس لتفاوت عقولهم، ويجب أن يعلم المبادرون باتهام غيرهم فى دينهم لمجرد استعمالهم لحقهم الشرعى فى اختيار القول الفقهى الذى يجيز الغناء للترويح عن النفس أنهم ليسوا فى مأمن من ذات التهمة إن اختاروا حكم تحريم الغناء، فالذى أعطاهم حق اختيار حكم التحريم للغناء على قول فقهى هو الذى أعطى غيرهم حق اختيار حكم مشروعيته على قول فقهى آخر، وصدق الله حيث يقول: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون» (النحل: 44)، والحساب فى أمور الدين ليست فى الدنيا القائمة على المظاهر والتغالب بالأصوات والاتهامات، وإنما الحساب فى أمور الدين يوم الدين الذى لا تملك فيه نفس لنفس شيئًا؛ لأن الأمر يومئذ لله الذى يحاسب بالنوايا، كما أخرج الشيخان عن عمر بن الخطاب أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».