سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أهالى الغائبين يروون قصة فقدان الأبناء فى رحلة البحث عن الثراء الملعون..والد ياسر: دفعت للسمسار 10 آلاف جنيه حتى أحقق حلم ابنى.. وشقيق آخر: حررت له إيصال أمانة.. و الرحلة انطلقت من الإسكندرية فى 2004
رغم تمدد البحيرة على مساحة 9.826 كيلو متر ورغم أنها من أكبر المحافظات الزراعية فى مصر، ويمتهن عدد من مواطنيها الزراعة نظرا لأنها تطل على البحر المتوسط تظل من أكثر المحافظات التى يلجأ أبناؤها إلى الهجرة غير الشرعية التى حصدت الكثير من أرواحهم. من الطريق الزراعى تدخل محافظة البحيرة، قرية العيون تابعة لمركز ايتاى البارود بالبحيرة فتجد الجميع يجلس داخل أراضيهم فى قرية عيون وتلحظ امتداد البيوت الحديثة التى يعرفها الأهالى بأنها ملك عائدين من اليونان وإيطاليا، يقولون إن أصحابها سافروا عن طريق الهجرة غير الشرعية، ومنهم من تزوج وعاد بأسرته، ومنهم من حصل على الجنسية وجمع ثروة ومنهم من بقى هناك ليرسل الأموال لأهله. فى منزل ياسر شعبان حسين، أحد المعتقلين بالسجون الليبية، الكلام عنه لا ينقطع فلا أحد من عائلته يصدق مرور 10 سنوات على غياب ابنهم البكرى، هادئ الطبع، حسن السيرة، سنوات ربما تغيرت خلالها ملامحه، فزحفت الشعيرات البيضاء على شعره الأسود الفاحم، الذى يظهر فى الصورة المعلقة، بغرفة الاستقبال بالمنزل الريفى. يقول عبدالحميد حسين، والد ياسر، إن ابنه من مواليد 1976، وحين سافر كان عمره 28 عاما، ما يعنى أنه بلغ عامه ال38 الآن، مضيفا: لو لم يسافر، لكانت ذريته تملأ الدار. ياسر اتخذ قرار السفر لأنه لم يستطع الحصول على وظيفة ثابتة، منذ حصوله على بكالوريوس الزراعة 2001، بينما رفض العمل فى الأرض، «لأنه أفندى»، ولا يطيق حياة الفلاحين، هكذا أكد والد ياسر، الذى امتلأت عيناه بالدموع، وهو يتذكر اليوم الذى طالبه فيه ب20 ألف جنيه، لتحقيق حلمه فى الثراء عبر السفر إلى إيطاليا أو اليونان، بطريقة الهجرة غير الشرعية. وكشف عبدالحميد بأنه تم التوصل إلى السمسار، الذى يعمل حلقة وصل بين ياسر، ومركب الصيد التى تقله إلى البحار الليبية ومنها لليونان، واشترط السمسار أن يحصل على 20 ألف جنيه، يستلم نصفها «مقدما»، والنصف الآخر بعد وصول ياسر إلى اليونان. لم يستطع والد ياسر رفض طلب ابنه العاطل وجمع ال10 آلاف جنيه فى أيام معدودة، حتى يحقق لابنه حلمه، الذى دائما ما كان يهمس به إليه «نفسى ألاقى وظيفة وابنى بيت وأتجوز ويبقى عندى ولاد». تقرر موعد السفر فى 17 يناير، 2004، وشجع ياسر عددا من شباب القرية على الهجرة فتبعه العشرات، من أقاربه وأصدقائه، وآخرون ينتمون لمحافظات مجاورة، ليبلغ عدد الموعودين بالوطن غير الشرعى، 52 شابا مصريا. عيسى محمد عيسى، مدرس اللغة العربية، حاول منع ابنه محمد من الهجرة لكنه أصر فاقترض والده المبلغ المطلوب.. كان محمد صديقا مقربا من ياسر، الذى يكبره بسنوات، ويعتبره مثله الأعلى، لذلك اتخذ قرار السفر، فور معرفته برغبة ياسر فى ذلك. محمد هو ابن عيسى الأكبر، من مواليد 1985، ورغم حصوله على بكالوريوس الزراعة، كان يرى فى الهجرة غير الشرعية مستقبلاً مضموناً.. يفسر والده ذلك: «كل شاب بيسافر يكون نفسه، وإحنا متعودين ع كده من زمان»، وجميع أهالى القرية يعرفون سماسرة الهجرة وكل شىء يحدث فى البحيرة «عينى عينك»، ما يثير التساؤلات حول دور أجهزة الدولة فى السيطرة على هذه الظاهرة. وأضاف عيسى أن ابنه حاول الحصول على عمل قبل اتخاذ قرار السفر، فوجد كل الوظائف المتوفرة بالمحافظة هى العمل «كأجير» لدى أصحاب الأرض الأغنياء، مقابل 15 جنيها فقط لليوم الواحد، وهو ثمن بخس لمجهود شاق، لا يرضى به الشباب الطموح. يتذكر الأيام التى سبقت السفر، فيؤكد أن إلحاح ابنه دفعه إلى الحصول على «سلفة» بضمان مرتبه الضئيل. صحب محمد ابن عمه، الذى أقنعته فكرة الهجرة والصحبة الجيدة، المتمثلة فى ياسر ومحمد، وفى الثانية عشرة منتصف أحد ليالى شهر يناير الباردة، هاتفهم السمسار بأن وقت السفر حل، فودع الشباب عائلاتهم فى عجل، وانطلقوا. لحظات وداع المشهد اختلف قليلا فى بيت ياسر شعبان، أحد المعتقلين فى السجون الليبية، ففى اليوم المخصص للسفر، أقنع ياسر والدته أن شقيقها الذى يسكن بمنطقة العامرية فى الإسكندرية، يعانى من تدهور حالته الصحية، ويحتاج إلى وجودها بجانبه.. وتعلق والدته على ذلك، بأن ياسر رقيق القلب لا يحتمل حزن والدته، ودموعها لحظة الفراق. والدة سامح فيصل، أحد المعتقلين فى السجون الليبية، أكدت أن والده لم يحاول إخفاء موعد السفر عنها، بل بالعكس، حرص على أن يبقى بجواره لأطول وقت ممكن قبل السفر، وقد غالب دموعه فى حضورها قائلا: «ادعى لى مجيش تانى يا أما». والدة سامح لديها قناعة تامة أن ما حدث كان محض قضاء وقدر، وأن ابنها لم يخطئ، فقد ذهب للبحث عن رزقه، بعد أن ضاقت عليه الدنيا فى قريته الصغيرة. ولم تكن رحلة الهجرة غير الشرعية سهلة، فقد سبق التاريخ الرسمى للسفر فى ال17 من يناير، محاولتان فاشلتان للهجرة كما تؤكد مها عبدالله، شقيقة محمد عبدالله، احد المعتقلين فى السجون الليبية. تقول مها إن شقيقها البالغ من العمر 19 عاما، ضغط على العائلة للموافقة على السفر، ومع إلحاح الشاب وجموحه وافقت العائلة، واستطاعت تدبير المبلغ بشق الأنفس، بعدها تم تحديد موعدين متتاليين للسفر، لكن السلطات المصرية استطاعت رصد المركب، وتم القبض على الشباب، وإعادتهم إلى بيوتهم فى نفس اليوم، حفاظا على مستقبل الشباب. قالت مها والدموع فى عينيها إنها حاولت أن تقنع شقيقها بأن ذلك ما هو إلا علامة من الله، حتى يعدل عن فكرة الهجرة غير الشرعية، إلا أن محمد لم يهتم بمخاوف شقيقته، وبات أكثر تصميما على الفرار إلى خارج البلاد. وخلال حديث مها اكتفت والدة محمد بالصمت، حاملة صورة ابنها، الذى لابد تغيرت ملامحه، من مراهق فى ال19، إلى شاب فى أواخر العشرينيات من عمره، والدة مها باتت بالكاد ترى الطريق، بعد أن ضعف نظرها من الليالى الطويلة، التى بكت خلالها ابنها الغائب. الأمر المثير للدهشة هو أن العائلة تركت شقيق محمد الأصغر «أحمد» يسافر إلى إيطاليا، بطريقة الهجرة غير الشرعية، إلا أن حظ أحمد كان أفضل من شقيقه، حيث نجح فى التسلل إلى الأراضى الإيطالية، وهو الآن يعمل بالمدينة الأوروبية، ويرسل مبالغ مالية بشكل دورى إلى عائلته. إخفاء الهوية ويتناقل أهالى قرى البحيرة «روشتة» النجاح فى حالة الوصول، إلى أراضى الهجرة غير الشرعية، فيقولون: على الشباب المهاجر أولا أن يتخلص من كل الأوراق التى تشير إلى هويته، قبل أن يغادر الموانى المصرية، بما فيها ماركات الملابس وأماكن صنعها، وهكذا لا تستطيع سلطات البلاد التى يهاجر إليها، معرفة جنسيته الحقيقة. بعد ذلك يقدم الشاب طلبا للجوء، بدعوى أنه فلسطينى أو عراقى أو سورى، محاولا تقليد أى من هذه اللهجات، وتبحث سلطات مدن الهجرة غير الشرعية طلبه، وتضعه فى السجن ثلاثة أشهر، بعدها إما توافق على طلبه، أو ترحله إلى مصر، فى حالة اكتشاف أمره.. فترات السجن هناك، هانئة، لأن السجون آدمية، هكذا يتباهى أهالى القرية، أثناء تبرير إقبالهم على الهجرة غير الشرعية. ويضيفون: بعدها يحصل الشاب المصرى على تصريح إقامة مؤقت، ثم يتحول إلى دائم، وترسل له عائلته جواز سفره عن طريق البريد السريع، أو مع أحد المسافرين من أهالى القرية، ثم تنتعش عائلة الشاب بسبب تدفق الحولات بالعملات الصعبة. «قالى اللى سافروا مش أحسن منى.. أنا عايز اتجوز واجيب شقة» يقول رشاد على، الذى سافر أخوه الأصغر محمد ذو ال18 عاما مع ذويه فى الرحلة المشئومة، رافضا استمراره فى العمل كسائق، فضلا عن رفضه العمل فى الأرض، يقول رشاد: «قارن حاله بالناس اللى سافرت، كلهم راجعين مستواهم احسن، قولتله متسافرش لانها خطر ومجازفة، لكنه كان فقد الأمل فى أن يتحسن ظروفه هنا». رشاد أوضح ان محمد لم يدفع المقدم للسمسار، وحرر له ايصال أمانة، موضحا «ملحقناش نجمع الفلوس لانه اتخذ القرار قبل السفر بيوم، وكنا ناويين ندفع لما نتأكد انه وصل». الوضع بالنسبة لمحمد أحمد مسلم كان مختلفا فلم يكن سفره هربا من العمل، بل لسد ديون والده، على حد قول والدته، التى أوضحت «لما شاف اللى بيرجعوا معاهم فلوس كتير قال لابوه هسافر واسدد عنك، راح مرجعش، ولشدة حزن ابوه عليه، دخل فى حالة سيئة مكانش دارى بالدنيا، حتى صدمته سيارة ومات». زاوية مسلم من أكثر القرى فى البحيرة، التى يجرى فيها تداول القصص الناجحة للهجرة غير الشرعية، حيث أدى وجود نماذج من الشباب الذين استطاعوا رفع مستوياتهم المعيشية بعد السفر والاستقرار فى إيطاليا واليونان، إلى شيوع الحلم بين أهالى القرى المجاورة. السيد عطا، الذى لم يتعد عمره ال20 عاما، سافر بغرض الادخار لزواج أخواته البنات، فوالده «حارس عقار»، لا يملك من الأموال ما يمكنه سد حاجاتهم جميعا، تقول والدته «أخواته اتجوزوا وابوه مات وهو لسة مرجعش وانا بقيت قاعدة لوحدى، نفسى اشوفه قبل ما اموت». الروايات السابقة تعكس أحلاما ساذجة، تناقض الواقع الذى يؤكد حقيقة احتجاز وغرق عشرات الشباب، فى البحار بين السواحل المصرية، وسواحل اليونان وإيطاليا، من ضمنهم ال52 شاباً المحتجزين فى السجون الليبية منذ 10 أعوام.