جميعنا نشعر بالقلق على مستقبل البشرية فى ظل تنامى ثقافة العنف والجريمة وصراع الأقوياء وسحقهم للأضعف على كل المستويات.. نتساءل فى فزع هل من سبيل للوقوف فى وجه التطرف بأنواعه، والذى تدفع البشرية ثمناً باهظاً له من الدم المراق إلى الحياة على هامش لا آدمى، من هنا تأتى أهمية المبادرات ذات الطابع الإنسانى الشامل لعلها تصبح أحد وسائل استرداد روح الإنسانية وإعادة التبشير بها. من هذه المبادرات التى تستحق التأمل، عقد منذ أيام وتحت شعار "الصداقة والإخاء والمساواة" بمدينة ريمنى الساحلية فى إيطاليا ما سمى ب"لقاء ريمنى" فى دورته الثلاثين، وبحضور ما يقرب من 2 مليون مشارك من حوالى 64 دولة من جميع الأجيال والتخصصات، وبحضور مكثف لرجال فكر ورأى وثقافة وفن وسياسيين رأى بعضهم فى الحدث فرصة ذهبية لمخاطبة رأى عام عالمى والتأثير فيه. كان الحضور المصرى لهذا الحدث الثقافى المهم ضعيفاً عدا بعض الشباب السكندرى ولفيف من الشخصيات العامة المصرية الذين حضروا بدعوة من الدكتور وائل فاروق أستاذ الأدب والنقد المصرى المرموق فى الأوساط الثقافية الإيطالية، والذى يحظى باحترام وتقدير منظمى الملتقى، لدوره الخلاق فى تدريس ما يتصل بالثقافة العربية والإسلامية فى جامعة "ماتشراتا" الإيطالية أقدم جامعاتها وأعرقها، والتى يصل عمرها حوالى 600 سنة، وكذلك لمساهماته المهمة فى الملتقيات الفكرية والثقافية وحوار الحضارات، والتى حاضر من خلالها فى قلب الفاتيكان عن الثقافة الإسلامية، وفى فعاليات "لقاء ريمنى" فى ندوة عامة شهدها الآلاف، وهو دور لم تستثمره مصر جيداً حتى الآن. لقاء ريمنى الثلاثون كانت بدايته على يد 17 شابا إيطاليا جمعهم التقارب الفكرى باعتبارهم تلاميذ المفكر المجدد جوسيانى مؤلف كتاب "الحس الدينى" والذى حاول من خلال كتابه التأسيس لمدرسة فى الفلسفة والمنطق والفكر اللاهوتى تقوم على استرداد منظومة القيم الأخلاقية والسلوكية والحياتية التى تعد جوهر الأديان، معلياً من كون الدين ليس مجرد شعائر تقام، بقدر ما هو حياة أكثر سعادة ومسئولية تجاه النفس وإحساس بالآخرين، هؤلاء الشبان تحلق حولهم منذ ثلاثين عاماً أهالى مدينة ريمنى، وهم يعزفون الجيتار ويتناولون البيتزا الساخنة ويطرحون أفكارهم للمناقشة فى شكل أشبه بالمناظرات اليونانية القديمة، لكن هذا اللقاء الذى تجدد سنوياً تطور بصورة مذهلة، حيث أصبح من أهم المنتديات والأحداث الثقافية فى أوروبا كلها، والجميل أن هؤلاء الشبان المؤسسين أصبحوا اليوم يشغلون مناصب رسمية ودولية مرموقة فى إيطاليا والعالم، ومنهم نائب رئيس البرلمان الأوروبى الحالى والدكتور سيمون شينى فقيه القانون بالجامعات الإيطالية وغيرهم، إلا أن شيئاً لا يعوقهم عن الحضور إلى "اللقاء" سنوياً والمساهمة بنشاط فى فعالياته، كما يساند الحدث العديد من الشخصيات المرموقة والهيئات والشركات الكبرى، وتدعمه مادياً ومعنوياً من أجل الاستمرار والتنامى. كان من أروع الأشياء أن نجد أكثر من ستة آلاف شاب وشابة متطوعين للعمل فى هذا الحدث الثقافى إعداداً وعناية بزواره، يتحملون على نفقتهم الشخصية مسئولية الحضور والمشاركة فى كل الأعمال التحضيرية ورعاية الوفود القادمة من الدول الأخرى، كما يعملون فى المطاعم المصغرة لأشهر المطاعم الإيطالية التى تتسابق فى تقديم خدمة ميسرة لرواد الملتقى، رأينا وزراء وشخصيات مرموقة تسير وسط الناس تستمع إليهم وتحاورهم دون قيود أو تحفظات أو حراسة مشددة، رجال فكر وقانون وفنانين يتشاركون موائد الطعام وورش العمل والندوات العامة، وزير العدل الإيطالى جلس يتناول طعامه مع مجموعة من السجناء أقاموا مطعماً لخدمة رواد اللقاء، برلسكونى طلب منه شاب أن يقف فى دوره فى الطابور ولا ينتظر معاملة استثنائية!!، شاب وشيوخ من كل جنس ودين يتحاورون ويتشاركون ويعقدون الصداقات، ليالى فنية وموسيقية استمتعنا فيها بشباب يعزف ويغنى من أسبانيا وآسيا وأفريقيا ومزمار بلدى!! حالة من الإخاء الإنسانى، والتسامح الدينى، والحوار السياسى والثقافى، ملتقى حقيقى لصداقات تبنى وتقارب فعلى حضارى متنوع فى مدينة ساحرة على شاطئ الأدرياتى. أعتقد أن مثل هذه الأنشطة الثقافية الكبرى هى احتياج فعلى نتمنى لها أن تتنامى، وأعتقد أن مصر بوهجها التاريخى والثقافى يمكن أن يعقد فيها عشرات من هذه الأنشطة الثقافية العالمية تستلهم روحها ورصيدها لدى الآخرين، إننا بحاجة لاستخدام كثير من إمكانياتنا المتاحة فى ملتقيات تمثل صورة حيوية للتفاعل الحضارى، وبناء التقارب بين الشعوب من خلال الدبلوماسية الشعبية وإحياء القيم التى تندثر. إن التشويه الذى أصابنا فى مقتل والصورة المغلوطة عن حضاراتنا وثقافاتنا العربية والإسلامية، وتنامى الأفكار العنصرية على يد المتطرفين فى أوروبا والعالم، وفقدان الكثير من التراكم الإيجابى للقيم والمعانى الإنسانية الرفيعة فى هذا الزمن الردىء، قد تستدعى أن نعالج بالثقافة والوعيد ما أفسدته السياسة وخربه الاقتصاد، ومن حسن الطالع أن كثيراً من الشخصيات المثقفة والمتدينة بتحضر عن حق تتواجد فى حياتنا لكنها أشبه بحبات منفرطة لا يجمعها خيوط تفاعل حقيقى ودائم. هل يمكن استلهام روح "لقاء ريمنى" للتفكير فى حدث ثقافى مشابه فى مصر؟؟ ربما.. * عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية