"فرنكشتاين فى بغداد" هى الرواية الثالثة للكاتب العراقى أحمد سعداوى، وصلت للقائمة القصيرة للبوكر، ومقسمة إلى 19 فصلاً، بطلها مواطن عراقى اسمه "هادى العتاك"، يعيش فى حى "البتاويين" وسط بغداد، ويعمل بائعا للأجهزة المستعملة، إذ يجمع بقايا العلب المعدنية والصفائح والأشياء القديمة ويعاود بيعها من جديد، لكنه مع التغير الذى لحق بالواقع العراقى، من أعمال عنف، يتحول من شخص يلملم بقايا العلب المعدنية، إلى شخص يلملم بقايا جثث العراقيين الناتجة عن التفجيرات، ويخلق منها كائنًا عملاقًا اسماه "الشمسة" ويخرج لينتقم من الجناة القتلة. أحمد سعداوى أكد ل"اليوم السابع" أن وصول روايته للقائمة القصيرة لجائزة البوكر، إنجاز مهم لم يتوقعه، وأن الرواية تلمس الواقع العراقى الذى مازال يعيش بعيدًا عن ضفة السلام الحقيقى والدائم على وصفه، وقد قام "اليوم السابع" بإجراء حوار معه: -وصول رواية "فرنكشتاين فى بغداد" للقائمة القصيرة لجائزة البوكر..ماذا يمثل لك..وهل توقعته؟ تلقيت أسئلة كثيرة عن توقعى لنتائج البوكر، وفى الحقيقة لا أحد يستطيع توقع أى شىء، إنه ربما يتمنى أو يرغب، ولكن التوقع صعب، فالأمر محكوم فى النهاية بمزاج لجنة التحكيم ورؤيتها الخاصة، وكل الأعمال المشاركة فى المسابقة ستخرج من السباق تباعاً ما عدا رواية واحدة فى نهاية المطاف، ومن المستحيل أن تكون كل هذه الأعمال غير مؤهلة أو مستحقة لنيل الجائزة، ولكن هذا هو حال الجوائز، يجب أن تتخذ لجنة التحكيم فى نهاية المطاف قرارات مؤلمة وصعبة. وأما ماذا تمثل لى، فأنا بالتأكيد من ذوى الحظ الحسن بوصول روايتى إلى قائمة الستة، وهذا بحد ذاته إنجاز مهم وخطوة ممتازة ستنفعنى كثيراً فى مسيرتى الأدبية. -كيف ترى صعود أدب المطارادات البوليسية والفانتازيا إلى جائزة البوكر؟ هذا دليل على تنوع مشهد الكتابة الروائية العربية، وعدم اقتصارها على نمط أو خيارات تقنية محددة، وتقنيات الرواية البوليسية قد تضفى نوعاً من التشويق، ولكنها بحد ذاتها ليست ميزة يمكن أن تضاف إلى الرواية، كما أن استثمار الفانتازيا بحد ذاته لا يمثل قيمة مضافة إلى الرواية، إن لم تكن ضمن بناء روائى قوى ومحكم، ويحمل مغزى وتبريراً مقنعاً. بالنسبة لى أنا مؤمن تماماً أننا نعيش، عراقياً أو عربياً، فى عالم شبه فانتازى، حيث يختلط التحليل المنطقى مع الحالات الغرائبية والفنتازية كواقع يومى معاش، وليس مجرد ذاكرة وتاريخ وتراث، ما زالت الأحلام والتخيلات تساهم فى توجيه حياة شعوبنا، وما زالت الأساطير الشعبية والدينية تساهم فى تشكيل الوعى العام. وفى روايتى أعطيت مثالاً صادماً عن كيفية تشكيل الأساطير الشعبية عن الأحداث العامة، وقدمت نقداً ومحاكمة لبعض المفاهيم والتصورات السائدة شعبياً، كما إنى قدمت نقداً لموقف المثقف شبه العدمى الذى قد يستفيد من الوعى الأسطورى السائد، حين يرى مصلحة شخصية له فى ذلك، ولا يحاول تفكيك هذا الوعى، أو الوقوف موقفاً نقدياً منه. - مارد ضخم يتكون من أشلاء الجثث والقتلة لينتقم من المجرمين الذين قتلوا أجزاءه، فهل وصل ما أردت الرمز به لعامة الناس من القراء؟ ما تسمينه "المارد" كان كائناً مركباً ومعقداً وليس بسيطاً، إنه يحمل أوجهاً عدة، وأحدها هو وجه النبيل المنتقم من المجرمين، وفى ردود فعل القراء لمس جزءٌ منهم هذا الوجه وتعاطف معه، بينما تعاطف آخرون مع وجوه أخرى فى شخصية هذا الكائن. بالإضافة إلى أن تطور مسار الأحداث والانتقالات التى مرّ بها "الشسمة" تحكى مساراً لتطور مواقف الكثير من طالبى الثأر والباحثين عن إحقاق العدالة بأيديهم، وكيف أن المعيار الشخصى فى تحديد المجرم والضحية لا يكون نافعاً فى الغالب، ولا يوفر بوصلة دقيقة لعملية الفرز فى ساحة متلاطمة تختلط بها دماء الجميع؛ وأن التعويل على فرد منقذ ورمى الأحلام والرغبات والطموحات والمسئوليات على رقبته هو طور آخر من أطوار الكارثة وليس خروجاً منها. وأعتقد أن الكثير من القراء تفاعلوا مع هذه الأجواء، وعاشوا تجربة المواجهة مع الأسئلة العميقة التى واجهناها كأفراد وشعب فى أجواء العنف الطائفى المخيفة فى 2006-2007؛ والتى ما زالت بعض أجوائها مستمرة حتى يومنا هذا. - هل كان اختيارك شخصية "هادى العتاك" من قاع المدينة، تأكيدًا على أن هذه الطبقة الاجتماعية الأكثر معاناة والأكثر إحساسا بالمسئولية تجاه ما يحدث؟ شخصية هادى العتاك مركبة وخاصة، ومرتبطة عضوياً بالمكان الذى تعيش فيه، فهو أولاً يسكن فى حى يقع فى قلب العاصمة بغداد، وهذا الحى متنوع إثنياً وطائفياً بالسكّان، لذا فهو البيئة المثالية لتشكيل "الشسمة"، هذا الكائن المتكون من جذاذات تنتمى إلى كل المكونات والأعراق والجماعات السكّانية. كما أن هذا الحى "البتاويين" هو حى قديم يحوى طبقات تاريخية متراكمة، ابتداءً من اليهود العراقيين، الذين أسسوا هذا الحى قبل تهجيرهم فى خمسينيات القرن الماضى إلى الطوائف المسيحية المتعددة التى غدت الساكن الأكبر لهذا الحى لاحقاً، ثم تناقص أعداد المسيحيين وزيادة نسبة السكان من المسلمين، وهذا ما يمثل حضوراً عمودياً بالزمن ذى طبيعة اثنية ودينية خاصة. بالإضافة إلى بقايا من المهاجرين المصريين والسودانيين الذين فضلوا البقاء فى بغداد برغم كل ما جرى عليها من أحداث عنيفة. العنصر الآخر المهم فى صلة المكان بالشخصية أن هذا الحى هو من الأحياء الفقيرة الآن، وتسكنه عوائل شبه مسحوقة ومعدمة، ومن هذا الجو كله تخلقت شخصية هادى العتاك، الكذاب مؤلف القصص الشفاهية، والذى لا يعرف أحد على وجه الدقة هل خلق شخصية "الشسمة" بيديه فعلاً أم أنه صنعها من خياله الخصب؛ هذه الشخصية التى وجدت تعاطفاً من المحيطين به لأنها فى العمق تمثل طموحاً ورغبة وأملاً. -من رواية "فرانكشتاين" لمارى شيلى، إلى روايتك "فرنكشتاين فى بغداد"، ألم تقلقك فكرة المقارنة بين العملين؟ روايتى تنشئ صلة تناص معلنة مع مصدرين، أولهما هو رواية ميرى شيلى، والثانية قصة القديس ماركوركيس المظفر الذى أعاد المسيح نسج جذاذات جسده بعد تمزقه، وهذه آلية متبعة فى روايات ما بعد الحداثة، ولكن روايتى تنقل الاستعارة إلى مستوى أبعد من القضية الشخصية التى عاشتها شخصيات رواية ميرى شيلى، أو البعد الدينى الصرف فى قصة القديس ماركوركيس، لتكون استعارة عن معاناة مجتمع بكامله. كما أن هذه الاستعارة ظلت فى الجوهر أما على مستوى الحكاية والتفاصيل فكانت مصادر "الشسمة" عراقية بحتة. -"فرنكشتاين فى بغداد" مواجهة مع المجتمع العراقى الذى يعيش لحظة متوترة فى تاريخه، فما كان شعورك قبل نشرها، هل كان لديك تخوف ألا تجد الصدى المناسب لها فى ظل هذا الواقع، أم تلتحم مع مشاعر العراقيين؟ لم يكن لدى تخوّفات معينة قبل نشرها، فالرواية استغرقت منى وقتاً طويلاً فى الكتابة، وكنت خلال ذلك أختبرها قرائياً بنشر مقاطع منها أو فصول، وعرضتها بعد اكتمالها على نخبة من الأصدقاء، لتلمس تأثيرها. وكنت أتوقع أن تحدث أثراً طيباً فى القراءة بعد النشر، وهذا ما حصل، وما أطمح إليه أن تساعد هذه الرواية، بالإضافة إلى التواصل معها كعمل فنى صرف، فى تلمس الموقف الأخلاقى الذى نعيش فيه اليوم كعراقيين، ونحن نجابه أسئلة تحديد المجرم والضحية، ومحاولة تحديد المسئولية تجاه ما حدث ويحدث لنا، وجملة من القضايا التى تناولتها الرواية وحاولت عرضها. - التحول الذى حدث ل"هادى العتاك" من شخص بسيط يلملم بقايا العلب المعدنية ويعاود بيعها من جديد، لشخص يلملم بقايا الجثث ليخلق منها ماردًا يريد الثأر من القتلة..فهل ذلك الشعور بالانتقام يساور نفوس العراقيين اليوم؟ لملم الكثير من العراقيين خلال السنوات العشر الماضية أشلاء جثث كثيرة من الشوارع والأرصفة جراء التفجيرات الإرهابية، وذهبت الكثير من العوائل إلى دوائر الطب العدلى لتسلم جثث أبنائهم مرة ومرتين وأكثر، وحدثت على أرض الواقع قصصٌ أكثر رعباً وقسوة مما قدمته الرواية. وكلنا فى الواقع، اشتركنا فى دوامة العنف، بطريقة أو بأخرى، إن كان بالمباشرة باليد واللسان، أو بالتضامن القلبى، أو بالصمت والوقوف على الحياد ومحاولة الهرب من المسئولية دون فائدة. وللأسف ما زال الكثير من العراقيين يطالب بالثأر حتى يومنا هذا، وما زالت العدالة مرتبطة بالانتقام والثأر والقصاص، وهذا التصور ينتقل بسهولة من المستوى الشخصى الذى يحوّل أخ الضحية إلى قاتل يطلب الثأر لأخيه مثلاً، إلى مستوى أكثر تعقيداً حين تفكر فئة أو مجموعة سكانية بالانتقام "التاريخى" من فئة وجماعة أخرى، ولا تفكر بالحصول على السلام إلا من خلال هذا التفكير. وأكرر أسفى أننا جميعاً ما زلنا بعيدين عن ضفة السلام الحقيقى والدائم، وأن بناء الدولة ومؤسساتها ما زال ضعيفاً ومخترقاً من هذا التفكير الانتقامى. -فكرة الثأر التى غلبت على الرواية..هى انعكاس على الواقع العراقى.. فهل كان يتحول مسار الرواية إذا تبدلت فكرة الثأر بالقصاص؟ ذكرت فى جوابى السابق جانباً من هذه القضية، الشىء الأساسى الذى ربما حاولت الرواية إيضاحه، أن غياب القانون العام أو ضعفه، يتيح لقوانينا الخاصة أن تتحرك، وبشيوع القوانين الخاصة "الطائفية، العشائرية.. إلخ"، تنشأ الحرب الأهلية. "الكاتب ابن تجاربه" فهل كنت ستكتب الرواية إذا كنت تعيش خارج العراق؟ هناك كتاب وروائيون عراقيون كثر فى الخارج، ويقدمون كل يوم إبداعاً جميلاً ومهماً، وبالنسبة لى فما دمت هنا "فى الداخل" وأراقب ما يجرى لبلدى، فأنا، فى جانب ما، أقدم شهادتى عن تجربتى والتجربة الاجتماعية العامة. والرواية عموماً مشروع يتحقق فى أى فضاء كان، شرط الإلمام المعلوماتى والاقتراب من التفاصيل الإنسانية التى يتم تأسيس العمل الروائى عليها، لقد كتب كافكا مثلاً رواية "أمريكا" وهو لم ير أمريكا فعلاً، وأفق الرواية مفتوح ويحمل تحديات وإغراءات كثيرة. وأنا أشعر بأن هناك مادة غنية فى التجربة الاجتماعية العامة فى العراق خلال العقود الثلاثة الماضية تساعد الكاتب الروائى المجتهد على تأسيس مشاريع روائية مهمة، ولهذا فهى لها الأولوية عندى، ولهذا يبدو خيار المغادرة وترك البلد صعباً فى الفترة الحالية، مهما كانت الظروف. - تكتب الرواية وتصف أحداثها بدقة شديدة، وكأنك ترسم لوحة فنية بقلمك، فهل استفدت من الفن التشكيلى فى الكتابة الروائية؟ أتذكر كلمة لأحد كتاب الرواية البريطانية وهو ينصح بأن يكتب الكاتب وكأن كل ما يجرى أمامه يجرى على خشبة مسرح شديد الإنارة، ولربما لإيمانى بهذه الحقيقية كنت حريصاً على دقة التصوير ووضوح معالم المكان ووضوح الشخصيات، ومن حق القارئ أن "يرى" ما يقرأه، وأن يتمكن من تصويره فى مخيلته. لا توجد فى روايتى استثمارات واضحة للفن التشكيلى بمعنى التداخل والاقتراب من بنيات هذا الفن، وربما كان التصوير الموجود فى الرواية، واستثمار التقنيات قريباً من السينما أكثر. -أعتقد أن الرواية استفادت من الموروث الشعبى بدرجة كبيرة، فما هى قراءاتك فى هذا المجال؟ إن سلمنا بالتقسيم المنهجى الشائع للثقافة إلى "ثقافة عالمة" وأخرى "شعبية" فإن مجتمعاتنا بصورة عامة تحركها مصادر الثقافة الشعبية التى تكون غالباً شفاهية، أو طقوسية، وفن الرواية بما أنه اقتراب من المجتمع، فهو بالضرورة سيتداخل مع ثقافاته الشعبية المتنوعة، ويعيد صياغتها وخلقها داخل العمل الروائى، فها هنا يتكون جزء مهم من هوية أى مجتمع. وبرأيى أن الرواية العربية انتهت أحياناً فى بعض نماذجها للكتابة عن "كانتونات" مغلقة مدارها مجتمع المثقفين وثقافتهم العليا ومطامحهم ورؤاهم ولغتهم الخاصة، وهذا ما ضيّق من عالم الرواية عموماً. لا أزعم أن لدى اطلاعاً منهجياً واسعاً على الثقافة الشعبية العراقية، ولكنى أحاول الاستفادة منها قدر استطاعتى فى تأثيث عالم الرواية عندى. - بشكل عام..كيف ترى علاقة التبادل الثقافى بين مصر والعراق؟ وهل تتابع الأدب المصرى؟ هناك تواصل لم ينقطع بين الثقافتين العراقية والمصرية، والكتب المصرية موجودة على الدوام وبشكل أساسى فى المكتبة العراقية وكذلك العكس، احتفظ بعلاقات طيبة مع جملة من المثقفين والكتاب المصريين ومع نتاجاتهم، وبعضهم أصدقاء مقربون، وعلى المستوى الشخصى كنت سعيداً أن روايتى نفدت فى معرض القاهرة الأخير للكتاب. أما أكثر المصريين الذين أدين لهم فى تشكل ذائقتى الروائية، فالمتن الروائى المصرى غنى وثرى، ولكنى أتذكر بمودة وعرفان الروائى المصرى الراحل عبد الحكيم قاسم ونتاجه الروائى المهم، وعلى المستوى الثقافى العام فهناك عدد لا يحصى من الكتب الفكرية والتاريخية التى أنتجتها الثقافة المصرية والتى تشكل عموداً فقرياً فى الثقافة العربية المعاصرة. -ماذا عن أعمالك القادمة؟ وهل ستكون عن الواقع العراقى أيضًا؟ أعمل على تجميع المادة الأولية لرواية جديدة، ولا أعرف متى سأنتهى منها، تجرى أحداثها بالتأكيد فى بغداد، أو انطلاقاً من هذه المدينة.