منذ التغيرات التى وقعت فى 30 يونيو الماضى نصحنى كثيرون بالسفر خارج مصر والبقاء بعيدا حينا من الوقت، ومع الوقت تزايدت تلك النصائح، ربما قدر هؤلاء أن آرائى التى أعلنها فى مناسبات مختلفة تبدو معارضة للنظام الحالى قد تسبب لى مضايقات من السلطات الجديدة، غير أنى قدرت أنها مبالغات ممن يحبوننى لا تذهب إلى ما ذهبوا إليه فلست عضوا بجماعة الإخوان، وهو أمر بات من العلم العام، وفى ذات الوقت لست أمارس ميدانيا ما يمثل تعبئة فى المظاهرات المعارضة، كما أننى لست فاعلا فى التحالف الوطنى لدعم الشرعية رغم أنه يمارس عملا مشروعا، لكل ذلك كان تقديرى مختلفا. أحيانا يبقى المرء لفترة قد تطول يشعر باغتراب ولوعة، باغتراب داخل الوطن، يدفعه هذا الشعور الكئيب بالغربة إلى رحلة للبحث عن وطن، وينظر فى أوطان أخرى يقلبها يحاول البحث فيها عن موضع أو موطن، يمر خلال فترة البحث عن وطن بتجارب وأزمات ما بين سجون ومعتقلات، يكافح أيضا من أجل نقاء الوطن ومستقبله، يشتبك فى معارك جانبية تارة مع السلطة وتارة أخرى مع فصائل أخرى ضمن الجماعة الوطنية. لم أترك «مصر» فى أوقات صعبة هاجر منها عدد كبير من رجالات الحركة الإسلامية فى التسعينيات، وبقيت أحمل رأسى على كفى داخل «الوطن» أنافح عن المظلومين والمضطهدين بسبب آرائهم ومعتقداتهم الفكرية أو السياسية أو الدينية. صحيح أيضا أنى وقتها بحثت عن «وطن» أعيش فيه بلا هوية وبلا قضية لئلا اتهم أنى قد بعت القضية، كتبت مقالا شهيرا بعنوان «أبحث عن وطن» وأنا أتعرض لاتهامات من اليمين ومن اليسار وأكثرها ألما ما كانت تصدر طعنا من ذوى القربى وظلم ذوى القربى أشد من ألم السهم المهند كما يقولون، كنت بين مطرقة وسندان أسير على حبل رفيع، ورغم ذلك كله اخترت البقاء داخل «الوطن» وتحملت كلفة الاختيار، إن وجدت، ومهما تنوعت، فكما قال الشاعر «بلدى وإن جارت علىّ عزيزة/ وأهلى وإن ضنوا علىّ كرام» صحيح أيضا أن هزة أصابتنى للحظة وأنا أتابع وسائل الإعلام تنقل خبرا عن قرار قاضى التحقيق المستشار الجليل ثروت حماد منع عدد من الشخصيات العامة من السفر فى قضية إهانة القضاء، منهم العبد الفقير!! ثم تتابعت توابع الهزة بالإعلان عن قرار الاتهام الذى ضمنى، وتعجبت مع كامل احترامى للهيئة القضائية التى حققت وأحالت، فقد كانت حياتى كلها دفاعا عن استقلال القضاء واستمرار هيبته، وكان لى رأى مذاع سبب ضيقا لأصدقاء كُثُر، أن الصبر عن «هنات» أو شوائب نراها داخل المؤسسة القضائية والتغافل عن إثارتها أكثر فائدة من إثارتها لأن الصمت عنها يعنى الحفاظ على هيبة القضاء، واحترامه فى نفوس العامة، تلك الهيبة لو ضاعت انعدم توازن المجتمع. هاتفنى وقتها صديقى المحامى النابه «أحمد الحريرى» معاتبا: لمَ تغافلت عن نصيحتى إليك؟ حملت أوراقى وذهبت إلى القاضى ثروت حماد، وسألته ما مدى حقيقة الخبر؟ فأكد صحته، قلت له: لقد سافرت خارج مصر منذ حدثت متغيرات 30 يونيو وما بعدها قرابة عشر سفرات، منها خمس بعد استدعائى للتحقيق، وإخلاء سبيلى بلا ضمان منذ ثمانى شهور تقريبا، وقد كان ذاك فى زمن رئاسة الرئيس مرسى وعدت، فليس متصورا أبدا أن أترك وطنى!! وأطلعته على حجوزاتى للعمرة مع أسرتى فى عطلة نصف العام، وقد أتممناها قبل صدور قرار المنع أو الاتهام قال سأنظر فى طلبك. المهم وافق القاضى على سفرى لسفرة واحدة لمدة 10 أيام!! غادرت مصر مع أسرتى، كما كان مخططا إلى المدينةالمنورة، وكتبت صحف كثيرة عن سفرى، منها صحف صفراء أوهمت القراء أن ذلك تم لقاء مقابل، وكتبت إحداها عن وصولى السعودية أنها المحطة قبل الأخيرة للوصول إلى قطر!! أرسل لى صديقى «الحريرى» رسالة فيسبوكية أنه ها هى الفرصة جاءتك مرة أخرى فابق بعيدا فترة من الوقت حتى تتضح الصورة، وكذلك اتصل بى كثيرون يحملون ذات النصيحة، غير أنى أخبرت الحريرى أننى لست هذا الرجل، ولا أريد أن أفقد مصداقيتى بعد أن منحنى القاضى تصريحا بالسفر، قال «الحريرى»: لقد ذكرتنى بموقف أبو ذر الغفارى رضى الله عنه، قلت: وما موقفه فاستطرد صديقى تاليا القصة «فى عهد عمر بن الخطاب جاء ثلاثة أشخاص ممسكين بشاب وقالوا يا أمير المؤمنين نريد منك أن تقتص لنا من هذا الرجل فقد قتل والدنا، قال عمر بن الخطاب: لماذا قتلته؟ قال الرجل: إنى راعى إبل وماعز.. واحد من جمالي أكل شجرة من أرض أبيهم فضربه أبوهم بحجر فمات فامسكت نفس الحجر وضربت أباهم به فمات قال عمر بن الخطاب: إذا سأقيم عليك الحد قال الرجل: أمهلنى ثلاثة أيام فقد مات أبى وترك لى كنزاً أنا وأخي الصغير فإذا قتلتنى ضاع الكنز، وضاع أخى من بعدى، فقال عمر بن الخطاب: ومن يضمنك فنظر الرجل فى وجوه الناس فقال هذا الرجل فقال عمر بن الخطاب: يا أبا ذر هل تضمن هذا الرجل فقال أبو ذر: نعم يا أمير المؤمنين فقال عمر بن الخطاب: إنك لا تعرفه وإن هرب أقمت عليك الحد فقال أبو ذر: أنا أضمنه يا أمير المؤمنين ورحل الرجل ومر اليوم الأول والثانى والثالث وكل الناس كانت قلقله على أبو ذر حتى لا يقام عليه الحد، وقبل صلاة المغرب بقليل جاء الرجل وهو يلهث وقد أشتد عليه التعب والإرهاق ووقف بين يدى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال الرجل: لقد سلمت الكنز وأخى لأخواله وأنا تحت يدك لتقيم علىّ الحد فاستغرب عمر بن الخطاب وقال: ما الذى أرجعك كان ممكنا أن تهرب؟؟ فقال الرجل: خشيت أن يقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس فسأل عمر بن الخطاب أبو ذر لماذا ضمنته؟ فقال أبو ذر: خشيت أن يقال لقد ذهب الخير من الناس فتأثر أولاد القتيل فقالوا لقد عفونا عنه، فقال عمر بن الخطاب: لماذا؟ فقالوا نخشى أن يقال لقد ذهب العفو من الناس».