الكتابة فى السياسة وروافدها تجلب المتاعب، وبصرف النظر عن نوعية المتاعب، فإن إصرار الجميع على ربط الكتابة بالسياسة والأحداث الجارية يظهر الأمر وكأنه لا يوجد فى العالم مواضيع أو قضايا أو مشكلات غير سياسية، والأمر ليس كذلك.. ولذلك قررت هذه المرة أن أكتب بعيداً عن السياسة، فكان من الطبيعى أن ابحث فى ذاكرتى عن شىء أرقنى أو أثار الجدل داخل عقلى فى أى فترة من حياتى. وأنا فى الصف السادس الابتدائى كان ضمن مقررات النصوص قصيدة للشاعر أحمد شوقى، تنتهى ببيت «مخطئ من ظن يوماً أن للثعلب ديناً».. ورغم أننى كنت أعانى من فشل دائم فى حفظ النصوص إلا أننى على غير العادة حفظت هذه القصيدة بسرعة لا تتفق مع قدراتى، فقد كانت فكرة تكفير الثعلب لا تلقى قبولاً لدى.. فالقصيدة تشير إلى أن الثعلب نزل فجأة إلى عالم الطيور وهو يرتدى ثياب الواعظين ويدعو للهداية فى حنية ووداعة ورقة، وطلب الديك ليؤذن وهو ما رفضه الديك، مؤكداً أن الثعلب لا عهد له ولا دين، وهنا مربط الفرس، لماذا لم يثق الديك فى الثعلب و«جرسه» فى عالم الحيوان والطيور، وما الذى فعله الثعلب، هل لأنه تميز ببعض الخبث والدهاء.. هذا ليس مبرراً، فقصص الحيوان والطيور تشير إلى أنه كان هناك من هو أسوأ من الثعلب، فالغراب أطاح بالحمامة من عشها واحتله، وخطف قطعة الجبن من فم العصفورة.. والفار كان طماعاً إلى درجة أنه فقد حياته، والحصان ظل يلقى التراب الذى يردمه به صاحبه حتى صنع تلاً ارتفع به فوق صاحبه، والأسد استعبد الغابة، والحمار كان واشياً فى كليلة ودمنة.. كل هذه مواقف سيئة للحيوانات فى التراث، فلماذا نخص الثعلب رغم مظهره الحنون بكل هذه الكراهية، ولماذا نستخدم عبارة «مخطئ من ظن يوماً أن للثعلب دينا» فى مناسبات الغدر والاستندال. أتذكر أستاذاً لى فى عالم الصحافة وهو يروى قصة عن رئيس تحرير جريدة قومية راحل أنهاها بعبارة الثعلب.. والحكاية أنه بعد الإعلان عن اتفاقية السلام مع إسرائيل جمع رئيس التحرير القومى الصحفيين المناهضيين للاتفاقية، وقال لهم أنا لن أطلب منكم الموافقة على الاتفاقية أو تأييدها، فاستراح الصحفيون المناهضون، وظنوا أن رئيسهم وقع تحت تأثير القيم المهنية والأخلاقية وأنه لن يجبرهم على الكتابة بما لا يتعارض مع آرائهم ومعتقداتهم، إلا أنه استطرد قائلا: ولكنى أريدكم أن تحبوا «اتفاقية السلام»، وهنا أدرك الحاضرون كما قال لى راوى القصة «أنه مخطئ من ظن يوماً أن للثعلب دينا»، وأن كل المواد الدستورية حول حرية الرأى والعقيدة وكل القيم المهنية والأخلاقية لم يكن لها تأثير لدى رئيس تحرير الصحيفة القومية ولم تؤثر فيه وفى توجهاته السلطوية. والحقيقة أننى ما زلت مصراً على أن الدراما والوجدان الشعبى ظلموا الثعلب ظلماً بيناً، فالوسيط الذى نقل رغبة الثعلب فى استدعاء الديك للأذان لم يكن فوق الشبهات، وهذا هو حال الوسطاء والصف الثانى دائماً، فهم يتقاضون مقابل تمرير مطالب أسيادهم وتجميلها وتفسيرها، إذاً فتخصيص مشهد التدهور القيمى على الثعلب فقط هو إجحاف وغض البصر عن كائنات أخرى. وأيضاً من الملاحظات التى أثارت الجدل داخل عقلى هى محاولة البعض الصاق الحكمة بالحمار، رغم أن الحمار ليس حكيما، ولكنه كان خبيثاً، فالحمار استطاع ببراعة شديدة أن يجعل نفسه أكثر الكائنات أهمية، فقد جعل نفسه ركوبة للإنسان وضرورة له، وبتطور الأمر تعود الإنسان على الكسل الذى استفاد منه الحمار فى ضمان رعاية متميزة وأكل منتظم مقابل ضمان الإنسان لركوبة تعوضه كسله الذى فرضه عليه الحمار، وهكذا أصبح من الضرورى أن يكون لكل إنسان راكب حمار مركوب، وأعتقد أن الحمار فى مركز متساو من الإنسان، فكثير من البشر يتصفون بغباء شديد، حتى إنهم تصوروا أن رفض الانحناء وتحويل ظهورهم إلى ركوبة هو نوع من الكرامة، وهو ما جعل قيمة الحمار ومركزه أكثر بمراحل من الأغبياء أصحاب الكرامة والقيم، وما أكثر الصعود الحميرى. إذا عدنا إلى مشهد الصحفيين المناهضين لاتفاقية السلام وموقف رئيسهم الذى أراد إجبارهم أن يحبوا الاتفاقية بقلوبهم، وبحثنا فى مواقفهم بعد سنوات من هذا الطلب الغريب، سنجدهم قاوموا فى البداية، وبعد ذلك بسنوات كان معظمهم فى مركز لا يقل عن مركز رئيسهم، فالذى لم يستطع رئيسهم فعله بالضغط والابتزاز فعله الزمن وفعلته الحاجة تدريجياً، والأمر يكفيه تنازل مرة واحدة ويتحول بعدها التنازل إلى إدمان، فالإذعان والتنازل مثل الكوكايين يكفيك لأن تدمنه مرة واحدة. فى النهاية وبعيداً عن الكلام فى السياسة أقول إن الثعلب المسكين برىء من الإطار الذى وضعته فيه الأساطير، وأنه ليس هناك خبيث ولا كافر ولا خائن ولا غبى، وإنما هناك بشر يحملون كل هذه الصفات، وآخرون يحملون صفة انتهازية الحمار الذى جعل ظهره مطية ليكتمل المشهد.