لم أملك شيئا أقدمه، وأنا بعيد عنها وقريب منها فى نفس الوقت، أراها ولا أرها، وأمام هول ما كتب عنها فى التاريخ وفى الحاضر لكنى آثرت أن أكتب عنها بشكل مختلف هذه المرة، وأسترجع كل لحظة حين مررت بأزقتها الضيقة ذات يوم- والمليئة بدفء العروبة والإسلام وببساطة الحياة، بين الخانات والدكاكين الصغيرة والمكسوة بأثوابها العربية، وبحليها وتحفها المقدسية، لتتلاحم أبواب المدينة القديمة مع أقواسها التاريخية وتعبر عن حقب زمنية مرت من هنا، وأنا أنزل باب العامود بدرجات أدركت أنى لا أقف عند المرتفع الحقيقى للمدينة وإنما هى تراكمات الأزمنة من حولها إلا أن المدينة بقيت كما هى، رغم محاولات الاحتلال التهويد من خارجها ومن تحتها والحفريات التى وصلت إلى عمق المسجد الأقصى وهددت أعمدتها الرومانية والبيزنطية فالإسلامية وهددت مدنا آمنة تسكن تحت أزقتها وشوارعها، وأدركت أنى أقف ليس أمام المدينة القديمة وإنما أمام قلعة حصينة صمدت قرونا فى وجه الغزاة يعلوها أسوار ونوافذ حربية، فدخلت الباب وأنا أرى من تحتى عمقا وطبقات أخرى وكأنى أمشى على جسر معلق، مشيت أحتك بكل شىء حولى وأتقرب إلى حائطها البارز وحجرها القدسى وبلاطها الذى أعطانى انطباعا أنى أعيش فى زمن غير الزمن الحالى. ورغم أنهم هدموا كثيرا من أحيائها وأهمها الحى المغربى كاملا وغيروا كثيرا من المعالم المقدسية، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يجردوا الملكة من ثيابها ومن شعبها الذى تجذر فيها بانتماءاته الإسلامية والمسيحية والأرمنية والقبطية وغيرها من الأديان والطوائف وكل شىء قدسى، أدركت حينها لماذا قاتل من أجلها صلاح الدين الأيوبى، لأنها كل شىء لنا هى ماؤنا هى هواؤنا هى نورنا هى الإسراء والمعراج، هى درب الآلام، هى المسجد المبارك، هى شعب بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، رأيت الراهبات يتبادلن أطراف الحديث مع صديقاتهن المسلمات المحجبات ورأيت شيوخا يحتسون القهوة وآخرون يتعكزون على عكازهم الخشبى حالهم يقول "صامدون حتى الموت" وتجاعيد الزمن تكاد تظهر طبقات وطبقات، وأطفال يلهون فى ما تبقى لهم من مكان ضيق بين الطرقات، مررت من تحت شرفاتها الخشبية، الراكزة على عيدان قوية، يعلوها شبابيك وردية، مدينة هادئة ومشتعلة فى نفس الوقت، دخلت باحات المسجد الأقصى فرقت عينى ولم أتمالك نفسى، مشيت بين قببها الإسلامية فوصلت إلى ينبوع المتوضأ، همت الجموع بالصلاة فإذ بى أصلى فوق المصلى المروانى، كان هناك باب قد اكتشف حديثا، توجهت بعدها إلى داخل المسجد الأقصى فأحسست بالرهبة لعراقة وقداسة هذا المسجد بما مر به من محن، أعمدة عملاقة فيها آثار تشققات الزمن متوجة بتيجان رخامية تمسك بأقواس القبب يتدلى منها قناديل، وعلى بعض الجنبات محارب، توجهت إلى أول المسجد ونظرت من النافذة فإذ بالمسجد كأنه على جرف معلق فأحسست بشموخه، رأيت الأفق وغروب الشمس، رأيت أئمتها كأنهم من أهل الكهف لم يخرجوا منه ولم يتأثروا بعوامل الزمن ولم يرهقوا من تجاعيد وجههم والتى تحكى حكاية المدينة المقدسة. نظرت من حولى أحسست أنى فى مكان ليس على وجه الأرض، لا أعرف للحظة أين أنا ولكن بكل الأحوال كنت أعيش أجمل اللحظات فى حياتى، خرجت بعدها إلى الباحات مرة أخرى فقابلت بوجهى قبة الصخرة الذهبية تلمع بانعكاس الغروب، صعدت الدرجات سريعا لألمس بنيانها الفسيفسائى الأزرق الأبيض، أحسست أنى فى مكان عال فى نسائم الهواء الجميل يرقد ومن حوله أشجار باسقة، وأحسست أيضا أن الوقت يمر بسرعة وأنا أريد أن أستغل كل لحظة موجود فيها فى القدس، خرجت إلى الأزقة القديمة وكانت القناديل بدأت تضىء ذلك الطريق القديم الذى يتفرع منه أزقة وحارات، ولكن مع بداية هطول الظلام كانت البهجة تختفى، بظهور اليهود وقطعان المستوطنين، لا أدرى ولكنى شعرت أن الحركة خفت، قليلا مشيت بين الشوارع لأصل كنسية القيامة ومسجد عمر فأدركت حقيقة العلاقة الأزلية بين الأديان السماوية والتسامح الإسلامى، وإخواننا المسيحيين الذين كانوا أمينين طوال سنين على مفاتيح القدس الأبية، رأيت تعانق الصليب مع الهلال. خرجت مسرعا من المدينة لانتهاء تصريحى الاحتلالى، كانتهاء حلم سندريللا عند الثانية عشرة منتصف الليل، فسلكت الشوارع الالتفافية لتظهر لى سفوح الجبال المحيطة بالمدينة المقدسة يضيئها قمر وقبة وأنوار شوارع حزينة خالية، فابتهاج الصباح ليس كسكون الليل فى هذه المدينة، بدأت أبتعد عنها أكثر وأكثر لكنى بقيت منتظرا اكتمال اللوحة حين تجمعت كل الأماكن القدسية فى صورة واحدة بين بيوت عتيقة ومساجد وكنائس يتوجها المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة والأديرة والقبب ونوافذ رخامية وأقواس تعلوها وأسوار تحميها وتلتف من حولها فاكتملت اللوحة. قلت الحمد الله أنى رأيتها لكنى سألت نفسى هل سأراها ثانية، وكأنى رأيت حلما جميلا لم أرد أن أصحو منه أبدا لكن الحقيقة الثابتة من هذا الحلم أن مدينة السلام لا تعيش بسلام. * رئيس جمعية بيت القدس للدراسات والبحوث الفلسطينية