يقدم الليل إلى شارع محمد محمود متوشحا برداء قاتم ممتطيا جوادا أسودا، تتطاير ألسنة اللهب من المولوتوف والشماريخ، روائح القنابل تنقلها نسمات نوفمبر الهادئة إلى الأنوف لتسرى إلى الصدور فتكتمها والعيون تلهبها، وبعضها إلى الأعصاب فيشدها... مطالب بنقل السلطة إلى المدنيين واعتصام مفتوح إن لم يستجب إلى مطلبهم، كر وفر بين الشرطة والمتظاهرين وحشود من الأمن فى شارع ريحان تفصلهم عن وزارة الداخلية التى يبعدون عنها ثلاثة أرباع كيلو متر، الكر والفر يتجاوز محمد محمود إلى الفلكى والقصر العينى وأحيانا باب اللوق.. الجرحى فى تزايد، المستشفى الميدانى يصله الكثير، إصابات فى العين ورصاص مطاطى وخرطوش آثاره على الأجساد، إغماءات واختناقات من الغازات التى يفوح بها الشارع، لم يسلم المستشفى الميدانى من الاعتداء عليه، يتحول الأطباء إلى كنيسة قصر الدوبارة ومسجد الرحمن لعمل مستشفى ميدانى، وتشارك الموتوسيكلات فى نقل الجرحى كإسعاف شعبى.. يطل المراسل متكمما اتقاء رائحة الغازات والأدخنة من القنابل، يقف فى شرفة إحدى العمارات المطلة على الميدان والقريبة من محمد محمود، يصف- فيما يطلق عليه أهل الميديا لايف- ما يحدث يقطع استرساله المذيع: يتردد أن هيئة المتواجدين تختلف عمن تواجدوا أيام الثورة، ألا تلاحظ هذا؟.. لم يجب المراسل بنفى أو إثبات وإن فهم ما يريد المذيع أن يسمعه منه، ثم ما لبث وأن قاطعه المذيع وتوجه إلى ضيفه المحلل فى الاستديو راجيا من المراسل أن يبقى معه ليبلغه بأى جديد هناك.. تعجب المراسل لأن لديه جديدا" بالفعل ولم يدعه يقوله.. مرت نسمات نوفمبر العليلة الحاملة برودة خفيفة على استحياء على رأسه الحليق، تنقل فى الميدان متوجها إلى محمد محمود، العين اليمنى قنصت فى جمعة الغضب خلال أيام الثورة الأولى. جدران محمد محمود والجامعة الأمريكية تحولت إلى جداريات أشبه باللوحات الجنائزية عند قدماء المصريين، تجولت فى مرساها فرشاة الفنانين صانعى جرافيتى كبيرا، يمرر يده على ملمس الألوان على الجدران، يتلمس رفاقه المفقودين، يتحسس عينيه، الآن تسكنان الحائط بجوار رفاقى الذين فقدتهم، ارقدوا فى هدوء ولا تخافوا، نور نزف منكم يضىء الآن... ...هناك محاولات للعلاج خارج البلاد باءت بالفشل... حبه للنظر من أعلى الطائرة وشغفه بالرؤية منها محروم من الآن منه وإلى الأبد، الشمس لسعة وليست ضياء، والحياة ليل فقط ولا ليل يعقبه نهار، تؤرقانه الفقيدتان بهذا... من فى انتظاره بالمطار. عرفوا بفشل العلاج، لما رأوه فوجئوا بابتسامته المشعة ودهشوا من عصا الأمل التى لم تنكسر ولا يزال يتوكأ عليها، ويهش بها على بقايا الأمل والصبر حتى لا يهربا منه، ويدعانه فى صحراء القنوط تائها"، لكن ممارسة المهنة التى قضى سنوات فى دراستها أمر صعب، قال من رأوه هذا..