سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الشاعر العربى أدونيس فى حوار ل "اليوم السابع": الشعب المصرى كعادته يصنع التاريخ.. ولم نشهد من يفتى بجواز التدخل الأجنبى إلا الإمام الثائر القرضاوى.. ولو سقط الأزهر لسقطت الأمة فى التطرف والظالمية
لا توجد ثورة وطنية تتوسل التدخل الأجنبى أتمنى أن تصبح مصر نقطة انطلاق النهضة فى العالم العربى الإخوان لم يفهموا السمات الحضارية لمصر الجماعات الأصولية دائما تعادى مبادئ العلاقات الإنسانية الرغبة الأمريكية فى التدخل العسكرى بسوريا تكمن فى الجينات الاستعمارية لها المشهد السورى فى غاية الالتباس والضبابية وللأسف من يزعمون أنهم إسلاميون يشرعنون ضرب بلد عربى من قبل الغرب لم يفقد الرجل تألقه الذهنى، وقدرته على أن يخرج عن المألوف بعد، ولم يصب الدهر قريحته بالوهن، رغم أنه قد تجاوز الثمانين. هكذا لابد أن يشعر المرء إذا حاور الشاعر العربى والعالمى الكبير أدونيس، الذى تختلط فى عباراته حلاوة المفردة، وعمق الدلالة، وعبقرية الاستنتاج والتحليل، وصولا إلى كل ما يصنع الدهشة. ليس غريبا على «أدونيس».. ليس غريبا على عبقرى، درس الفلسفة فصار شعره يجمع بين الحكمة والصنعة البلاغية المتميزة، ويمتزج فى قوافيه رحيق ثقافات عربية ويونانية وفرنسية. منذ بداياته لم يتردد «ابن الشام» المولود فى مدينة جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية السورية، وهى محافظة «بحرمتوسطية»، عن أن يخترق حاجز الممنوع، ويعلن ثورته الشعرية على المألوف والشائع والمكرر الرتيب. كعادة أبناء البحر المتوسط، يمد الشراع مبحرا، فى عروقه شغف البحث والتنقيب.. كان ومايزال. لا يقول «معادا مكرورا».. يدخل إلى عالم المفردات، كما يدخل «على بابا» إلى المغارة السحرية، فيقول: افتح يا سمسم، فإذا الأبواب تنفتح، والأفكار تتدفق، وتتفجر من بين أصابعه اثنتى عشرة عينا من الشعر الطازج الجديد. ينام ملء جفونه عن شواردها، فيما يختصم النقاد ويتحاربون حول أفكاره، التى يجهر بها على الملأ، متشبثا بها حتى النهاية. إنه يتجمل بأن يكون هو.. أو أنه يتماهى فى قصيدته، ولا عجب، أليس هو القائل: أجمل ما تكون أن تكون حجة.. للنور والظلام.. يكون فيك آخر الكلام أول الكلام.. والآخرون - بعضهم يرى إليك زبدا.. وبعضهم يرى إليك خالقا.. أجمل ما تكون أن تكون هدفا - مفترقا.. للصمت والكلام. فى هذا الحوار الاستثنائى، مع الشاعر الاستثنائى، الصارم المتجهم ربما، أو المثخن بكل الاحتمالات، المترع بكل الممكنات، نحتاج صوت على أحمد سعيد، الشهير بأدونيس.. نستسقى كصحراء فى شدة الظمأ ما يفيض به علينا من سحائب حكمته البيضاء، فعسى أن يروى الظمأ ويبل الغليل. كيف رأى ثورة يونيو؟ ما موقفه مما يحدث على أرض سوريا وما يحيق بها من مخاطر؟ هل ستنتهى حالة الاستقطاب الدينى الحادة إلى فتح آفاق مجتمع أكثر تسامحا أم أن الأمة العربية على بوابات عصور ظلام؟ هذه الأسئلة وغيرها.. هى ما أجاب عنها أدونيس، مختصا «اليوم السابع» بحوار مدهش، وهو الذى قلما يتحدث إلى الصحف. لتكن البداية من الشأن السورى.. كيف ترى دعوات أوباما للتدخل العسكرى وضرب مواقع ضد سوريا للإطاحة بنظام بشار؟ - ليست الرغبة الأمريكية فى التدخل العسكرى أمرا مفاجئا، فاستخدام القوة الباطشة أمر يكمن فى جينات الإمبراطورية الاستعمارية الأمريكية، التى أقيمت على عملية تطهير عرقى كاملة للهنود الحمر، لكن المفاجئ فى الأمر هذا الموقف العربى من الضربة العسكرية، والغريب أن إشارة البدء فى الحرب جاءت من عواصم عربية. ما يفاجئنى حقا، هو أن العرب أنفسهم يقدمون هذه الشرارة، وهو عمل لا مثيل له فى تاريخ الشعوب التى تحترم نفسها، ولا فى تاريخ الثورات كلها.. أعنى الثورات الجديرة بهذا الاسم النقى. وماذا عن تأييد ائتلاف المعارضة السورية نفسه للتدخل الأجنبى فى سوريا؟ - لم نعرف فى تاريخ العالم ثورة وطنية تتوسل الأجنبى للتدخل العسكرى ولضرب بلادها، وتقديم السلطة إليها على سجادة من رؤوس المذبوحين، كما يفعل عدد من المعارضين وعدد من فصائل الثورة المسلحة فى سوريا. المشهد فى غاية الالتباس والضبابية، ومن المؤسف حقا أن من يزعمون أنهم «إسلاميون» يشرعنون ضرب بلد عربى من قبل الغرب الذى طالما وصفوه بأنه كافر. هل تقصد دعوات القرضاوى من على منابر قطر لتأييد التدخل الأجنبى فى سوريا وتسليح الإخوان فى مصر لضرب الشعب والجيش؟ - لم نشهد فى تاريخ الإسلام، ولم نقرأ عن عالم دين يفتى بضرب بلاده من قبل الأجنبى. ما يفعله «الأئمة الذين يدعون الثورة» أمر غير مسبوق، ونحن فى المرحلة الراهنة إزاء تناقض مضحك تكشف عنه بعض أحاديث المتدينين الذين يزعمون الدفاع عن «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان». إنهم يتباكون على دماء الشعب السورى البريئة، التى تراق بلا ثمن فى آتون الحرب، لكنهم لا يتورعون عن الإفتاء بتحليل الوقوف مع الولاياتالمتحدة، فيما تتأهب لإراقة دماء الشعب السورى ذاته. إن هذا الموقف الغريب، لا يمكن أن يتسق مع مبادئ الدين ولا مع حقوق الإنسان والديمقراطية. كيف ندافع عن حقوق الإنسان فى مجتمعنا العربى متعدد الأعراق «فهناك أمازيغ وأكراد ونوبيون»، ومتعدد الديانات، فيما يدعى البعض أنه يملك الدين «حصريا»؟ - لحسن الحظ أن هناك مؤسسات دينية تحفظ للإسلام مقامه المتميز المضىء، وعلى رأسها مؤسسة «الأزهر الشريف».. لولا أن الأزهر مايزال يمثل الصوت المنفتح الوسطى للإسلام، لسقطت الأمة فى هاوية سحيقة من التطرف والظلامية. وهذا يفسر شيئا من عداء الظلاميين لمؤسسة الأزهر. ماذا تقول عن موقف «الجامعة العربية» بشأن التدخل العسكرى فى سوريا؟ - لعلك تقصدين ما كان يسمى «الجامعة العربية»! يمكننى أن أصف حالها بمقولة شاعرنا العربى القديم «لا يقدر الإنسان أن يمشى فى مسافة لا تتجاوز مساحتها الفتر الواحد»! باركت إسقاط نظام الإخوان فى 30 يونيو، فهل ترى أن الحرب بين تيارى الدولة المدنية والدولة الثيوقراطية، قد انتهى فى مصر أم أننا مقبلون على معركة جديدة؟ - التحول الذى تقوده مصر يشكل مفترقا تاريخيا، يعيدها إلى متابعة التأسيس لكل ما الخطوات النهضوية بالأمة العربية، ولكل ما يؤكد على أن الإنسان، امرأة ورجلا، سيد نفسه وسيد مصيره، فى مجتمع يقوم على المواطنة. مجتمع مدنى علمانى ديمقراطى، ينتمى فيه المواطن إلى «المجتمع الدولة»، ويكون على الصعيد الشخصى، حرا فى الإيمان بالدين الذى يشاء، شريطة ألا يلزم هذا الإيمان أحدا غيره، ويكون حرا كذلك، فى أن يظل حرا، خارج كل انتماء دينى أو مذهبى أو أيديولوجى. وماذا عن الحرب.. هل انتهت عند هذه المرحلة؟ - إنجاز هذا التحول ليس أمرا سهلا، فأمام التحول يقف وحش هائل من الطغيان كمثل كائن خرافى بثلاثة رؤوس. يتمثل الرأس الأول فى طغيان التقليد الدينى الأعمى الذى أفسد الدين نفسه وأبعد عنه جميع العقول النيرة، وبخاصة بين الشباب، وهو تقليد حول الدين إلى مجرد أداة لخدمة السلطة، وإلى مجرد طقس شكلى تعبدى، مفرغا إياه من الآفاق والعوالم الروحية والثقافية. إن الإسلام السائد اليوم «أو المجيش» هو تحديدا دين بلا ثقافة، وهو تبعا لذلك دين ضد الثقافة، لأنه دين ضد الحرية، وضد الإبداع. ويتمثل الرأس الثانى فى التبعية الكاملة للأجنبى، اقتصادا وثقافة وحياة يومية.. فيما يتمثل الرأس الثالث فى الرجعية العربية الحاكمة خصوصا.. وهى رجعية لا أعرف كيف يسر لها الله العادل الحكيم الرائى هذه الثروات الضخمة التى تهدر لاحتضان «التابعين»، ولنبذ أو قتل «الضالين»، ولشراء «الحماة» من الحكام الأجانب الذين يستعان بهم عند الضرورات. مع تدفق النفط العربى كان متوقعا أن تتولى عواصم بعينها دور التنوير فى النهضة العربية، لكن المؤسف حقا أنها تلعب أدوارا ظلامية تخريبية. إن الأمة بأسرها فى حرب قد تطول ضد «الوحش ذى الرؤوس الثلاثة»، وفى هذه الحرب تبدو مقولة «لا مستقبل للعروبة إلا بوحدة الأمة» أصدق وأهم من أى وقت مضى.. تبدو حتمية الوحدة العربية حتمية ضرورة وصيرورة. بغير الوحدة سيعود العرب «شعوبا» وقبائل دون تعارف.. سيتدحرجون شيئا فشيئا، حتى ينقرضون. تعنى الانقراض الحضارى.. هذا المصطلح الذى تطلقه كثيرا؟ - نعم.. أعنى الانقراض الحضارى، لا الديمغرافى. سيصبحون مجرد كم عددى، هامشيين وتابعين مسخرين للقوى المهيمنة، كما تبدو علامات ذلك اليوم... إننا فى العمل العربى الوحدوى الجديد يجب أن نفيد من الفشل الذريع الذى أصاب عالم «الوحدة»، نظرا وعملا.. ولهذا حديث آخر.. حديث طويل. لكن مقالاتك التى وجهت فيها التحية للشعب المصرى تحمل تباشير الأمل.. أعنى الأمل فى أن الأمة لن تنقرض، أليس كذلك؟ - هذا صحيح.. فقد وجهت تحيات متوالية لميدان التحرير وللشعب الثائر وللمرأة المصرية الذين غيروا دفة السياسة للمرة الثانية وأطاحوا بنظام الإخوان. إن الشعب المصرى كعادته يعيد صناعة التاريخ، ويكشف بالدليل القاطع أن مقولة «أغلبية الشعب» التى تمترس خلفها نظام الإخوان كانت أوهى من بيت العنكبوت. كانت ثورة يونيو بمثابة صرخة فى وجه نظام «شوه» مفردة الشعب، واختزلها فى أتباعه بشكل مبتذل، ذلك بعد أن تربع على عرش السلطة، باسم الكم العددى، متعاليا متغطرسا على جموع العمال والكتاب والفنانين والإعلاميين والمسرحيين والشباب الذى «رفعوا آذان الثورة» وقت أن كان يعقد الصفقات. إن الشعب إن ثار حقا بقوة وعيه الجمعى ضد حاكمه الطاغية المستبد، فلا يمكن إلا أن يكون كتلة واحدة، بفئاته المتعددة المتنوعة كلها. لا يمكن أن يتجزأ شعب ثائر وينفصل إلى طوائف يحارب بعضها بعضا، أو تقتل إحداها الأخرى، أو تستبيح إحداها الأخرى.. من أجل ذلك ثار المصريون لحماية ثورتهم. كيف تصف الجولة التى خاضها تيار الإسلام السياسى فى الحكم بمصر طيلة عام؟ - إن الجماعات الأصولية، ولا سيما التكفيرية التى تتبنى منهج العنف، تحاول دائما أن تقوض الثقافة.. كما تسعى لأن تقوض مبادئ العلاقات الإنسانية ومبادئ القيم والأخلاق وكرامة الإنسان. إن شعبا ثائرا حقيقيا مثل الشعب المصرى لم يرضخ لمحاولات تقويض ثقافته، وهكذا هى الأمم العظيمة، ترفض المساس بسماتها الثقافية التى تشكلت ملامحها عبر آلاف السنين. هذه حقيقة لم يفهمهما نظام الإخوان، وتقديرى أن ثورة الشعب المصرى ضده كانت ثورة ثقافية على نظام جعل الهوية المصرية عدوه اللدود، فشعر الشعب بأن هذا النظام لا ينتمى له. بعد يونيو انتهت خرافة نحن الأكثرية والتيار المدنى أقلية ضخمة.. بدا واضحا أن الشعب المصرى فى جموعه وعلى تنوع فسيفسائه البشرية والثقافية مع المدنية العقلانية الخلاقة التى تفتح آفاق المستقبل، واسعة وعالية. ماذا تتوقع من مصر على المستوى القريب والبعيد والدور الذى من الممكن أن تمارسه فى المنطقة؟ - أتوقع من الدول العربية التى ثارت فى وجه الاستبداد أن يلعب بعضها دور «فلورنسا» فى بعث نهضة عربية، على غرار النهضة الأوروبية. تقديرى أن هذا دور مصرى بامتياز، بحكم عوامل يطول شرحها، لكن من الممكن اختزالها فى عبارة «مركز إشعاع حضارى». إن حركة النهضة الأوروبية انطلقت من فلورنسا إلى أوروبا فى القرن الخامس عشر، وانتشرت المعرفة حول التفكير الجديد فى مجالات الهندسة والتخطيط الحضارى والفنون والمعمار.. ومن ثم انطلقت الثورات تنشد الحرية والحداثة ومدنية المجتمع.. هذا أمر قد يحدث فى المنطقة، وأعتقد أنه لابد أن يحدث قبل أن «ننقرض حضاريا».