مصرع أكثر من 29 شخصا وفقد 60 آخرين في فيضانات البرازيل (فيديو)    ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على منزلًا شمال رفح الفلسطينية إلى 6 شهداء    تركيا تعلق جميع المعاملات التجارية مع إسرائيل    جمال علام: "مفيش أي مشاكل بين حسام حسن وأي لاعب في المنتخب"    "بعد فوز الزمالك".. تعرف على جدول ترتيب الدوري المصري الممتاز    10 أيام في العناية.. وفاة عروس "حادث يوم الزفاف" بكفر الشيخ    "نلون البيض ونسمع الدنيا ربيع".. أبرز مظاهر احتفال شم النسيم 2024 في مصر    حكم البيع والهبة في مرض الموت؟.. الإفتاء تُجيب    عيار 21 بعد التراجع الأخير.. أسعار الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الجمعة في الصاغة    بركات ينتقد تصرفات لاعب الإسماعيلي والبنك الأهلي    مصطفى شوبير يتلقى عرضًا مغريًا من الدوري السعودي.. محمد عبدالمنصف يكشف التفاصيل    سر جملة مستفزة أشعلت الخلاف بين صلاح وكلوب.. 15 دقيقة غضب في مباراة ليفربول    تعيين رئيس جديد لشعبة الاستخبارات العسكرية في إسرائيل    العثور على جثة سيدة مسنة بأرض زراعية في الفيوم    أيمن سلامة ل«الشاهد»: القصف في يونيو 1967 دمر واجهات المستشفى القبطي    مصطفى كامل ينشر صورا لعقد قران ابنته فرح: اللهم أنعم عليهما بالذرية الصالحة    بعد انفراد "فيتو"، التراجع عن قرار وقف صرف السكر الحر على البطاقات التموينية، والتموين تكشف السبب    الإفتاء: لا يجوز تطبب غير الطبيب وتصدرِه لعلاج الناس    محمد هاني الناظر: «شُفت أبويا في المنام وقال لي أنا في مكان كويس»    عز يعود للارتفاع.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 3 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    انقطاع المياه بمدينة طما في سوهاج للقيام بأعمال الصيانة | اليوم    الأرصاد تكشف أهم الظواهر المتوقعة على جميع أنحاء الجمهورية    نكشف ماذا حدث فى جريمة طفل شبرا الخيمة؟.. لماذا تدخل الإنتربول؟    قتل.. ذبح.. تعذيب..«إبليس» يدير «الدارك ويب» وكر لأبشع الجرائم    السفير سامح أبو العينين مساعداً لوزير الخارجية للشؤون الأمريكية    برلماني: إطلاق اسم السيسي على أحد مدن سيناء رسالة تؤكد أهمية البقعة الغالية    جناح ضيف الشرف يناقش إسهام الأصوات النسائية المصرية في الرواية العربية بمعرض أبو ظبي    فريدة سيف النصر توجه رسالة بعد تجاهل اسمها في اللقاءات التليفزيونية    فريق علمي يعيد إحياء وجه ورأس امرأة ماتت منذ 75 ألف سنة (صور)    أحكام بالسجن المشدد .. «الجنايات» تضع النهاية لتجار الأعضاء البشرية    رسميًّا.. موعد صرف معاش تكافل وكرامة لشهر مايو 2024    كيفية إتمام الطواف لمن شك في عدده    ملف رياضة مصراوي.. هدف زيزو.. هزيمة الأهلي.. ومقاضاة مرتضى منصور    معهد التغذية ينصح بوضع الرنجة والأسماك المملحة في الفريزر قبل الأكل، ما السبب؟    "عيدنا عيدكم".. مبادرة شبابية لتوزيع اللحوم مجاناً على الأقباط بأسيوط    خبيرة أسرية: ارتداء المرأة للملابس الفضفاضة لا يحميها من التحرش    ضم النني وعودة حمدي فتحي.. مفاجآت مدوية في خريطة صفقات الأهلي الصيفية    محمد مختار يكتب عن البرادعي .. حامل الحقيبة الذي خدعنا وخدعهم وخدع نفسه !    سفير الكويت: مصر شهدت قفزة كبيرة في الإصلاحات والقوانين الاقتصادية والبنية التحتية    جامعة فرنسية تغلق فرعها الرئيسي في باريس تضامناً مع فلسطين    الحمار «جاك» يفوز بمسابقة الحمير بإحدى قرى الفيوم    شايفنى طيار ..محمد أحمد ماهر: أبويا كان شبه هيقاطعنى عشان الفن    الغانم : البيان المصري الكويتي المشترك وضع أسسا للتعاون المستقبلي بين البلدين    مجلس الوزراء: الأيام القادمة ستشهد مزيد من الانخفاض في الأسعار    ليفركوزن يتفوق على روما ويضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي    اليوم.. الأوقاف تفتتح 19 مسجداً بالمحافظات    قفزة كبيرة في الاستثمارات الكويتية بمصر.. 15 مليار دولار تعكس قوة العلاقات الثنائية    بعد تصدره التريند.. حسام موافي يعلن اسم الشخص الذي يقبل يده دائما    البطريرك يوسف العبسي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يحتفل برتبة غسل الأرجل    برج السرطان.. حظك اليوم الجمعة 3 مايو 2024: نظام صحي جديد    تعرف على طقس «غسل الأرجل» بالهند    جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات    بطريقة سهلة.. طريقة تحضير شوربة الشوفان    القصة الكاملة لتغريم مرتضى منصور 400 ألف جنيه لصالح محامي الأهلي    مدير مشروعات ب"ابدأ": الإصدار الأول لصندوق الاستثمار الصناعى 2.5 مليار جنيه    صحة الإسماعيلية تختتم دورة تدريبية ل 75 صيدليا بالمستشفيات (صور)    محافظ جنوب سيناء ووزير الأوقاف يبحثان خطة إحلال وتجديد مسجد المنشية بطور سيناء    بالفيديو.. خالد الجندي يهنئ عمال مصر: "العمل شرط لدخول الجنة"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ياسر برهامى يبكى حال مصر: لابد أن نتوب إلى الله بعد ما حلَّ ببلادنا من البلاء..علينا تطهير قلوبنا وتحسين أفعالنا.. وما يجرى ليس فيه إلا السب والاختلاف والتهديد بالقتل.. وحالنا اليوم أهون من سقوط القدس

بكى الدكتور ياسر برهامى نائب رئيس الدعوة السلفية، حال مصر بعد أحداث العنف الأخيرة، التى تشهدها البلاد، مؤكدا ضرورة أن بتوب الجميع إلى الله -عز وجل- عسى ربنا أن يرحمنا مما حلَّ ببلادنا من البلاء، وأن نعلم أن حكمة الله -عز وجل- بالغة، وأن قدره سابق، وأن وجود سفك الدماء الذى يبغضه الله وحرمه شرعًا.
وأضاف "برهامى" فى مقالة بعنوان " المؤمنون بين الاستضعاف والتمكين" والذى نشر بموقع "صوت السلف": "علينا أن نحسن ألفاظنا وأفعالنا ونطهر صدورنا وقلوبنا، والحوارات التى تجرى بين الناس لا تسمع فيها إلا السب والشتم والاختلاف والتهديد بالقتل والقتل، وللأسف يوجد مَن يقتل بدم بارد، ولا يشعر بألم حين يقتل كأن هذه النفوس لا تؤثر فيه".
وجاء نص مقال برهامى كتالى: "الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى-: (وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إِسْرَائِيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا. عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) (الإسراء:4-8).
قدَّر الله أن تساء وجوه أقوام على يد كافرين وظالمين وصفهم الله بأنهم أولو بأس شديد "بختنصر"، ومن بعده الذين خربوا بيت المقدس، وقدَّر أن يدخل هؤلاء الكافرون المسجد الأقصى الذى شرفه الله -عز وجل- ويدمروا كل ما استولوا عليه (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا)، كل ذلك لماذا؟! (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ)، قدَّر الله ذلك لرحمةٍ أرادها -عز وجل- بالمغلوبين المظلومين؛ لأنهم سبق منهم من الذنوب ما يهلكهم؛ فأراد الله أن يرحمهم، ولا سبيل إلى ذلك فى حكمة الله -عز وجل- وعلمه السابق إلا بأن يسلِّط عليهم مَن ينكل بهم، ولكنه هو أرحم الراحمين.
وتأمل دعاء النبى -صلى الله عليه وسلم-: (وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمُنَا) (رواه الترمذى، وحسنه الألبانى)، وتأمل قول الله -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30)، فلابد أن نتوب إلى الله -عز وجل- عسى ربنا أن يرحمنا بعد ما حلَّ ببلادنا من البلاء، ولابد أن نعلم أن حكمة الله -عز وجل- بالغة، وأن قدره سابق، وأن وجود سفك الدماء الذى يبغضه الله وحرمه شرعًا -ومع ذلك- قدَّره لوجود عبادات أخرى من عبادٍ له مؤمنين: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30)، قال غير واحد من السلف: "يعلم أنه سيوجد منهم النبيون والعباد والزهاد والعلماء، والآمرون المعروف والناهون عن المنكر"، توجد المنكرات والمؤمن هو المقصود منها؛ ليس المقصود أن يقع فيها، ولكن المقصود أن يكرهها وينكرها ويسعى إلى إزالتها بالوسائل التى شرعها الله -عز وجل.
وكما أن الله -عز وجل- قدَّر أن ألم الجوع يدفع بالأكل، وأن ألم العطش يدفع بالشرب، هكذا قدَّر الله لكل شيء أسبابًا، وشرع لنا أن نأخذ بها لنصلح واقعنا، فالله -عز وجل- لا يحب الفساد، وقد أوجب علينا أن ننظر فى مآلات الأمور وعواقبها، وهذا يقتضى دراسة للشرع وسنن الأنبياء والاقتراب من كتاب الله -عز وجل- ومن سنة النبى -صلى الله عليه وسلم- وسيرته، ثم دراسة الواقع.
ولنتأمل فى قصة موسى -عليه السلام -وبنى إسرائيل: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِى الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِى نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:4)، هل نحتمل مثل هذا الاستضعاف؟! أن تتم المتابعة قبل الولادة، وتُسجل كل امرأة حامل فإذا قرب وقت ولادتها مروا عليهم كل حين لينظروا أين ذهب الحمل، فإذا كان ذكرًا دخل الذبَّاحون بشفراتهم ليذبحوا مَن؟! الرضيع! تخيل هذه المسألة... ما ذنبه؟! لم يخرج من بيته، لم يشهر سلاحًا، لم يعترض حتى بكلمة... ولكنه الطغيان والجبروت؛ ليس إلا إرادة التجبر والتكبر، واستضعاف طائفة بأن تكون ذليلة مهانة؛ ليس لشيء إلا لأنها آمنت بالله، أو إنَ منها مَن آمن بالله، فيدخل الذباحون فيذبحون الذكور ويتركون الإناث للخدمة والذل، وليتخيل الواحد منا ابنته الكريمة العزيزة عنده تؤخذ منه لتخدم الكفرة المجرمين، وليتصور أمة عامتها إناث بلا ذكور كيف يكون حالها؟! وقد استمر هذا الاستضعاف مِن قبْل ولادة موسى -عليه السلام- إلى أن جاء -عليه السلام- بعد حوالى 40 سنة، فكانت رحلة طويلة من الاستضعاف!
نجَّى الله موسى -عليه السلام- بقدرته عندما أوحى الله إلى أمه: (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلا تَخَافِى وَلا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:7)، ولنتأمل فى حكمة الله -تعالى- فيما هيأه لبنى إسرائيل بعد أكثر من 40 سنة، هيأ لها نصرًا وتمكينًا بدأ بولادة فى عام الخطر والقتل، ولادة يُخشى منها، ولادة مَن لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، ولا يملك له أهله شيئًا، رميه فى البحر مفسدته أقل من مفسدة حضنه فى بيت أبيه وأمه! (وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلا تَخَافِى وَلا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) (القصص:7-8)، منة من الله -عز وجل -على موسى -عليه السلام-، ومنة سابقة منه -عز وجل -على بنى إسرائيل، وهو يريد -عز وجل- نجاتهم على يد موسى -عليه السلام-، وقبل أن يذكر الله -عز وجل- نجاتهم وقبل أن تقع هذه النجاة ب40 سنة أو أكثر قال -تعالى-: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأَرْضِ وَنُرِى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:5-6)؛ وقع ما كانوا يخافون منه ويحذرون، فالحذر لا يغنى عن القدر (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) (القصص:8).
كبر موسى -عليه السلام- فى بيت فرعون بحرمان ظاهر كان سببًا فى عطاء مستمر: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ)، أتوا بالمرضعات يريدون أن يرضعوه وموسى -عليه السلام- يأبى، يوشك أن يهلك والحقيقة أن الحياة تكتب له بهذا الحرمان (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ. فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَى تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ) (القصص:12-14)، فإذا كنتَ تريد الحكم والعلم فى مواطن الشبهات والفتن فأحسن فى عبادة الله (وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ)، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأن تحسن فى معاملة الخلق (وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ) (رواه أحمد والترمذى، وحسنه الألباني)، وحُسْن الخلق حتى مع الكفار يثمر ثمرات عجيبة!
ولننظر كيف أثمر تعامل النبى -صلى الله عليه وسلم- مع ثمامة بن أثال سيد بنى حنيفة الذى أسرته خيل المسلمين؟ ربطه النبى -صلى الله عليه وسلم- فى المسجد ثلاثة أيام لا يكلمه فى شىء إلا: "(مالك يَا ثُمَامُ هَلْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْكَ؟) فَقَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تَعْفُ تَعْفُ عَنْ شَاكِرٍ، وَإِنْ تَسْأَلْ مَالاً تُعْطَهُ، فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ مَرَّ بِهِ، فَقَالَ: مالك يَا ثُمَامُ؟ قَالَ: خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تَعْفُ تَعْفُ عَنْ شَاكِرٍ. وَإِنْ تَسْأَلْ مَالاً تُعْطَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قَالَ أَبُو هُرْيَرَةَ: فَجَعَلْنَا الْمَسَاكِينُ نَقُولُ بَيْنَنَا: مَا نَصْنَعُ بِدَمِ ثُمَامَةَ؟ وَاللَّهِ لأَكْلَةٌ مِنْ جَزُورٍ سَمِينَةٍ مِنْ فِدَائِهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ دَمِ ثُمَامَةَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ مَرَّ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (مالك يَا ثُمَامُ؟) قَالَ: خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تَعْفُ تَعْفُ عَنْ شَاكِرٍ، وَإِنْ تَسْأَلْ مَالاً تُعْطَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَطْلِقُوهُ قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ يَا ثُمَامُ).
فَخَرَجَ ثُمَامَةُ حَتَّى أَتَى حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ فَاغْتَسَلَ فِيهِ وَتَطَهَّرَ، وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ جَاءَ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- وهو جَالِسٌ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، لَقَدْ كُنْتُ وَمَا وَجْهٌ أَبْغَضُ إلى مِنْ وَجْهِكَ، وَلا دِينٌ أَبْغَضُ إلى مِنْ دِينِكَ، وَلا بَلَدٌ أَبْغَضُ إلى مِنْ بَلَدِكَ، ثُمَّ لَقَدْ أَصْبَحْتُ وَمَا وَجْهٌ أَحَبُّ إلى مِنْ وَجْهِكَ، وَلا دِينٌ أَحَبُّ إلى مِنْ دِينِكَ، وَلا بَلَدٌ أَحَبُّ إلى مِنْ بَلَدِكَ، وَإِنِّى أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ" (أسد الغابة لابن الأثير، وأصله فى الصحيحين).
أطلقه النبى -صلى الله عليه وسلم- مع أنه صاحب مال كثير، وقتله غيظ للكفار، لكن هناك رسائل ترسل عبر القلوب تأسرها، كان ثمامة يسمع إعلامًا مضللاً، ولا يعلم حقيقة هذا الدين، فلما ظل ثلاثة أيام يسمع القرآن، ويرى المصلين ويعرف حقيقة الإسلام تغير تمامًا؛ كل هذا... بالخلق الحسن، بالمن، بالعطاء، تعامل النبى -صلى الله عليه وسلم- بذلك مع ثمامة -رضى الله عنه- وكان كافرًا، فكيف بأهل الإسلام؟! الأهل، الجيران، الأقارب، أهل الوطن الواحد الطيبون فى معظمهم، وإذا كنا هذا الإحسان لمن أساء، فكيف بمن لم يسئ؟! فينبغى علينا أن نحسن ألفاظنا وأفعالنا، نظهر صدورنا وقلوبنا، والحوارات التى تجرى بين الناس لا تسمع فيها إلا السب والشتم والاختلاف، والتهديد بالقتل والقتل، وللأسف يوجد مَن يقتل بدم بارد، ولا يشعر بألم حين يقتل كأن هذه النفوس لا تؤثر فيه! وهذا هو الجبروت -نسأل الله أن يعافينا وأن ينجى بلادنا من كل جبار عنيد-، لكن ذلك لا يمنع الإحسان إلى الخلق، فإن ذلك يجعلك تبصر عند الفتن (وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ).
وتأمَّل باقى القصة: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. قَالَ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَى فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ. فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِى اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِى مُبِينٌ. فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِى الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (القصص:15-19).
(فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ) إذن كان الأمر واضحًا عند موسى -عليه السلام-، هناك رجل من شيعته من بنى إسرائيل، وهناك أعداء، فالتمييز حاصل (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ) ولا شك أن هذا منظر مؤلم، أن يرى موسى -عليه السلام- واحدًا من الطائفة المستضعفة يُضرب ويهان ويوشك أن يقتل، وهو مظلوم، وموسى -عليه السلام- لا يمكن أن يترك المظلوم وهذا هو الأصل (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) فموسى -عليه السلام- كان قد آتاه الله قوة عظيمة.
وتأمل فى حال موسى -عليه السلام- الذى لم يقصد أن يقتل هذا الرجل، لم يتعمد قتله، بل كان يريد أن يدفعه فقط، وهو رجل كافر معتدٍ ظالم، ويريد قتل رجل من الطائفة المظلومة، لكن ضربه موسى -عليه السلام- ضربة كانت فيها نهايته، فكيف وزنها موسى -عليه السلام-؟ (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) سبحان الله، قتلُ كافر ظالم معتد يريد قتل مظلوم، يكون قتله خطأ لا قصدًا من عمل الشيطان!
فلماذا وزنها موسى -عليه السلام- بهذه الطريقة؟! لأن الشيطان يريد أن يدمر أمة، يدمر دعوة، الشيطان يريد أن يوقف خيرًا مستمرًا فى المجتمع بوجود موسى -عليه السلام- (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) وسمى موسى فعله هذا ظلمًا (قَالَ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وفى حديث الشفاعة قال النبى -صلى الله عليه وسلم-: (فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إلى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّى قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِى نَفْسِى نَفْسِى، اذْهَبُوا إلى غَيْرِى...) (متفق عليه).
ينسحب موسى -عليه السلام- من الشفاعة لأجل هذا الموقف ويظل ذاكرًا له: (وَإِنِّى قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا)، يقول هذا فى قتل نفس كافر ظالم؟! نعم؛ لأنه ترتب على قتلها فساد فى الأرض، وأذى للمسلمين، وتوقف الدعوة إلى الله لسنوات بحكمة الله البالغة الذى قدَّر ذلك من عداوة الشيطان للإنسان الذى يريد أن يورده المهالك، ويوهمه أنه يفعل ذلك من أجل الدين، وبالقطع لا نشك أن موسى -عليه السلام- فعل ذلك مِن أجل الدين ونصرة للمظلوم، ولكنها كانت عاطفة بغير رجوع إلى الشرع فى هذه اللحظة خطأ لا عمدًا (وَإِنِّى قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا) مع أنه لم يقل: "نهيت عن قتلها"؛ فكيف بما نُهى عنه من قتل النفوس المسلمة المعصومة؟! وكذلك النفوس المعاهَدة من غير المسلمين؟
بل سمى موسى -عليه السلام- هذا الذى صدر منه خطأ ضلالاً حين قال له فرعون: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (الشعراء:18-19)، فأجابه موسى -عليه السلام-: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (الشعراء:20)، فسماها موسى -عليه السلام- ضلالاً أى بالنسبة لما صار إليه بعد ذلك من الحكمة والعلم.
وجاءت المرحلة نفسها بعد هذا وقال فرعون: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ. قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:127-129).
فقارن بين الموقفين عندما قَتل موسى -عليه السلام- الذى قتل خطأ وبيْن التهديد الفظيع وبنو إسرائيل يقولون: (أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا)، وكان الجواب: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا) فهل هذا جبن وخذلان للمظلومين؟ هل هذا تضييع للأمانة أم الحكمة البالغة؟ (فَوَهَبَ لِى رَبِّى حُكْمًا) (الشعراء:21)، الحكم: العلم والفقه فى الدين، حتى يعلم حكم الله فى الوقائع المختلفة فى المراحل المختلفة فى الظروف المختلفة بتوفيق الله -تعالى-، والوحى أنزله الله لنعمل به، ليس فقط لنتعلم منه الوضوء والصلاة، بل نتعلم منه كذلك السياسة الشرعية.
وسيرة النبى -صلى الله عليه وسلم- فيها نفس الأمر، فكان يمر على ياسر وسمية وعمار -رضى الله عنهم- وهم يعذبون، بل تقتل سمية -رضى الله عنها- بحربة فى موضع عفتها، لكنه -صلى الله عليه وسلم- لا يملك لهم إلا أن يقول: (صَبْرًا آلَ يَاسِر فَإنَّ مَوْعَدَكُمْ الجَنَّةُ) (رواه الحاكم وأبو نعيم فى الحلية، وقال الألباني: حسن صحيح)، وفى الحديبية كان معه 1400 مسلم ووعد من الله: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا. سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الفتح:22-23)، ومع ذلك يقول: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) (رواه البخاري).
فلابد من النظر إلى المآلات، وهل فيمَ نفعله تعظيم لحرمات الله أم تضييع لها، وهل فى ذلك مصلحة للدين أم تضييع له؟ وقد قَبِل -صلى الله عليه وسلم- شروطًا ظالمة جائرة ليتمم الصلح الذى قال عنه عمر -باجتهاده الخاطئ فى تلك اللحظة- للنبى -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى البَاطِلِ؟ أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِى الجَنَّةِ، وَقَتْلاَهُمْ فِى النَّارِ؟! قَالَ: (بَلَى)، حق محض وباطل محض، ليس حق معه باطل، وباطل ليس معه حق، ليس معهم من الحق حتى لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال عمر: "فَفِيمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا وَنَرْجِعُ، وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا؟!" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا ابْنَ الخَطَّابِ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِى اللَّهُ أَبَدًا) (متفق عليه)، ويقبل -صلى الله عليه وسلم- أن يرد أبا جندل بن سهيل تنفيذًا للعهد -رغم أنهم قد يفتنونه فى دينه!- وقد أتى سيرًا 17 كيلومترًا يرسف فى قيوده، وهو مسجون مظلوم ينادى على المسلمين: " يَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ، أَتَرُدُّونَنِى إلى أَهْلِ الشِّرْكِ، فَيَفْتِنُونِى فِى دِينِى؟ !"، فيقول النبى -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ -عز وجل- جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا) (رواه أحمد بسند حسن)، ليكون الفتح المبين (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) (الفتح:1).
قال موسى -عليه السلام-: (رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَى فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ. فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِى اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِى مُبِينٌ).
موسى -عليه السلام- يقول للإسرائيلى الذى يُضرب مرة ثانية بعد ما نجا من المعركة الأولى: (إِنَّكَ لَغَوِى مُبِينٌ)، قال القرطبى -رحمه الله-: "أي: لأنك تشاد مَن لا تطيقه"، ليس لأن الفرعونى على الحق وأن الفراعنة عادلون وبنى إسرائيل على الباطل، لكن الغواية هنا لمآلات الأمور، ومع هذا كادت العاطفة أن تغلب موسى -عليه السلام- مرة ثانية: (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا)، هنا ظهر ما فى باطن هذا الإسرائيلى الغوى المبين إذ ظن أن موسى -عليه السلام- يريد قتله؛ فاتهمه بتهم فظيعة، أنطقه الله ليرد موسى -عليه السلام- عن العاطفة وارتكاب نفس الخطأ الذى ارتكبه بالأمس "وأحيانًا يكون البطش بمجرم كافر خطأ".
(قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ)، ولم يكن هناك شاهد على القتل إلا هذا الرجل وموسى -عليه السلام-، فاعترف بسرعة وانهار واتهم (إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِى الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ)، وسبحان الله! هل اطلع هو على إرادة موسى -عليه السلام- حتى يجزم بأنه ليست له إرادة إلا فى الجبروت؟! فأى ظلم هذا؟! كيف يتدخل ويحكم على نيات الناس؟! وهل هو اطلع على القلوب؟! ثم ألم يكن ما فعله موسى -عليه السلام- لإنقاذه؟! فهو يشاد كل يوم مَن لا يقدر عليه ثم يتهم موسى -عليه السلام- بأنه جبار!
فلما سمع موسى -عليه السلام- ذلك تركهما وانصرف، ثم عقد الفراعنة مؤتمرًا لقتله: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّى أَنْ يَهْدِيَنِى سَوَاءَ السَّبِيلِ) (القص:20-22)، فمكث موسى -عليه السلام- فى مدين عشر سنوات، عشر سنوات كانت إعدادًا جديدًا لموسى -عليه السلام-، كانت حكمة زائدة وعلمًا زائدًا وسماعًا لكلام الله.
وقد يقول قائل: هذا فى شريعة موسى -عليه السلام- أما شريعتنا ففيها: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) (التوبة:36)، وفيها: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا). فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟! قَالَ: (تَمنعهُ من الظُّلم فَذَاك نصرك إِيَّاه)، شريعتنا فيها إيجابية، فيها أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، فيها أن تقول الحق وتجهر به ولا تخاف فى الله لومة لائم.
والجواب: وهل هذه القواعد الكلية من نصرة المظلوم ونحوه تختلف فيها الشرائع؟!
أما القتال للمشركين كافة وأن نبدؤهم به، فهذه مرحلة من مراحل الجهاد شرع الله -عز وجل- عددًا من المراحل قبلها، وعند أئمة العلم ليست منسوخة كما بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من أن من كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو فى وقت هو فيه مستضعف؛ فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذى الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون فى الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، نعم هناك مرحلة تستعمل فيها: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا)، و(صَبْرًا آلَ يَاسِر).
وفى واقع الحال قد طبق هذا مرات... عندما سقطت الأندلس، وعندما سقطت بغداد، وعندما سقطت مدن كثيرة جدًّا تحت يد التتار، ولما سقطت القدس فى يد الصليبيين وبقيت 92 عامًا تحت سلطانهم لم يكن المسجد الأقصى يُصلى فيه، فحالنا اليوم أهون من يوم سقوط القدس، سقطت القدس فقتل نحو 90 ألفًا يوم الدخول، وجعل على قبة الصخرة صليبٌ، وجعلوا المسجد مزبلة وإسطبلاً للحيوانات! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فماذا صنع المسلمون؟!
أعدوا عُدة ظهرت نتيجتها بعد 92 عامًا، أعدوا جيلاً جديدًا بدل الجيل المنهزم الذى انهزم بالمعاصى والذنوب، والبدع والضلالات قبل أن ينهزم عسكريًّا؛ لذا لابد حتى يتحقق النصر من إيجاد هذا الجيل الذى فيه العقيدة الصحيحة وفيه العبادة، وفيه الخلق الإسلامى، وفيه روح الطائفة المتعاونة فيما بينها على البر والتقوى، وفيه الشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38)، إذ ليس أن كل مَن يعنَّ له شيء يفعله، وليذهب الجميع إلى ما يشاءوا، فكيف يكون لنا ثقل إذن؟! وكيف نصل إلى وحدة الكلمة إن لم يتنازل القليل منا للكثير عن رأيه الذى هو فى اجتهاد فى النصوص والتى تطبق على واقع؟!
لذلك نقول: إن شريعة موسى -عليه السلام- فيها نظرة المظلوم، وفيها قول كلمة الحق وألا يُخاف فى الله لومة لائم بدليل أنه قد واجه فرعون بما واجهه؟ وهذه القضية مفروغ منها، لكنه التطبيق على الواقع... فنصر المظلوم التى يترتب عليها ظلم أشد وفساد أشد هى من عمل الشيطان المضل المبين ومن الغواية، والبعض يجعلها من سبيل المجرمين؛ لأن موسى -عليه السلام- قال: (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَى فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ)، فالبعض يفسرها بلن أكون ظهيرًا لمثل هذا الرجل الإسرائيلى، والبعض يفسرها رغم أنى أعترف على نفسى بالخطأ فلن أكون ظهيرًا للفراعنة، وهذه قضية لابد أن تكون واضحة؛ أننا لا يمكن أن نعاون مَن يعادى الإسلام، لكن لابد أن نرعى المصلحة العامة للمسلمين.
ولذلك أتت الشريعة الإسلامية بأن يحسب المسلمون قوتهم وقوة عدوهم، وأن ينصرفوا من معركة يعلمون أنهم مقتولون فيها من غير إحداث نكاية فى العدو الكافر المشرك -وكانت لا فائدة منها- ليعدوا عدة جديدة (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:65-66).
وقد نقل العلماء الإجماع على أن المسلمين إذا كانوا فى قوتهم أقل من نصف عدوهم وعلموا أنهم مقتولون من غير إحداث نكاية، فإنهم يجب عليهم الانصراف ويحرم عليهم القتال؛ لأنهم يجب عليهم أن يحفظوا "رأس المال" لعدة جديدة، ويتحيزوا إلى فئة -ولو فى مستقبل قريب-، و(أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ وَأَنَا فِئَتُكُمْ) (رواه أبو داود والترمذى، وحسنه الحافظ ابن حجر، وصححه الشيخ أحمد شاكر)، كما قال النبى -صلى الله عليه وسلم- لمن عادوا مع خالد بن الوليد -رضى الله عنه- فى غزوة مؤتة حين أقدم الشهداء الثلاثة الأبطال: زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبى طالب، ثم عبد الله بن رواحة -رضى الله عنهم- على معركة ظنوا إمكان نجاحها، ثم تبيَّن لخالد بعد دراسة الواقع أن العدد والقوة لا تحتمل ذلك بعد أن قتل القادة الثلاثة شهداء عند الله.
ومع ذلك درس خالد بن الوليد -رضى الله عنه- الواقع دراسة صحيحة، وقرر الانسحاب التدريجي؛ لأن المعركة غير متكافئة، قال النبى -صلى الله عليه وسلم-: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ عَلَيْهِ، وَمَا يَسُرُّنِى، أَوْ قَالَ: مَا يَسُرُّهُمْ، أَنَّهُمْ عِنْدَنَا) (رواه البخاري).
تأمل فى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَفُتِحَ عَلَيْهِ) فتح من جنس فتح الحديبية! أهو فتح يا رسول الله؟! نعم، فتح المحافظة على رأس المال، فتح الإعداد لمرحلة قادمة، خمس سنوات فقط ثم كان خالد بن الوليد -رضى الله عنه- يقدم على فتح بلاد الشام كلها "معقل الروم عاصمة قيصر" ويأخذها المسلمون، والنبى -صلى الله عليه وسلم -لما تألم المسلمون نفسيًّا وقالوا: "نَحْنُ الْفَرَّارُونَ"، وكان ضغطًا نفسيًّا هائلاً، قال -صلى الله عليه وسلم-: (بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ وَأَنَا فِئَتُكُمْ)، وهكذا فلتكونوا إخوة الإسلام.
ونحن نتألم، ولكن فى الألم رحمة، ويقع ما نكره، ولكن يجعل الله بعده ما نحب، ويحصل الضرر للأمة، ولكن يجعل الله فيما يقع خيرًا كثيرًا بإذنه –سبحانه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.