وكانت رسالتى الثانية إلى أولادى وهم على عتبات المراهقة، عن التحدى؟؟ فقد كان من المهم أن يعرفوا المعنى الحقيقى للكلمة والحكمة منها وهكذا فى كل ما يواجههم يحاولون أن يعرفوا دائما المعنى الكامن وراء الحروف، ولا يأخذوا بالقشور....؟ والتحدى هو نوع من الصراع أو الحرب مع شىء أو شخص مع الإصرار على النصر فى النهاية أو هو بمعنى آخر الرغبة الشديدة والملحة فى أن تكون أنت.. بغض النظر عن الآخرين كيف هم؟؟ أو هو بمعنى ثالث.. أنا ومن بعدى الطوفان.. ولكن فى إطار الدين والأخلاق.. أى هو الوصول إلى الأهداف النبيلة بالطرق والوسائل الحسنة بلا إضرار بالغير، أللهم إلا خسارته لمعركة التحدى....، فاللاعب فى الملعب إن لم يتحدى خصمه ويصر على إلحاق الهزيمة به، كان خصمه المنتصر عليه، وبات هو المغلوب.. فلا عواطف.. داخل الملعب.. وإنما التحدى سيد الموقف، فالمتحدى هنا يريد من غيره ومن الناس أجمعين أن يدركوا تماماً أنه الأقوى والأذكى والقدوة لهم ولأبنائهم.. وهو فى سبيل ذلك يركز كل جهوده فى الظفر بالنتيجة لصالحه.. والخصم أيضاً يحلم بذلك، ويعمل على تحقيق نفس الحلم، وأرى أن هذا المعنى كامن فى ثنايا الآية الكريمة {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (251) سورة البقرة، والآية الأخرى {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِى عَزِيزٌ} (40) سورة الحج والدفع هنا هو التحدى الذى قد يكون بين حق وباطل وقد يكون أيضا بين حق وحق أكبر منه.. وأنا لا أؤيد أن أحصر التحدى فى معنى ضيق يتمثل فى تحدى شخص لشخص.. أو مجموعة لمجموعة.. أو أمة لأمة، ولكن هناك تحد أسمى من كل ذلك وأجمل وهو تحدى النفس الأمارة بالسوء.. وهو أحد أنواع المجاهدة والذى سماه النبى صلوات الله وسلامه عليه وآله بالجهاد الأكبر، وهو مقاومة نوازع الشر والمكسب الرخيص المبنى على الغش والتدليس والسرقة والصعود على أكتاف الآخرين ودوسهم بالأقدام، وهناك تحدى الكسل وتحدى الظروف التى تقف حجرا عثرة أمام تقدم الإنسان.. أى إنسان له ظروف خاصة كفاقد البصر أو السمع أو الكلام وهو من يسمى بالمعاق.. وهذا تحد جميل محمود فى الدنيا والآخرة ومأجور فيهن جميعاً بإذن الله....... وهناك أيضا تحدى الوقت... وهو أن تستطيع إنجاز أمور تحتاج إلى وقت واسع فى أقل وقت ممكن........ فالذى يستطيع أن يقرأ كتاباً كاملاً ويفهمه فى يوم واحد، هو بالتأكيد أفضل ممن يقرأ نفس الكتاب ويفهمه فى أسبوع أو شهر أو عام... وهذا هو تحدى الوقت وهو الذى أشار إليه الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى الحديث الشريف " من أراد أن ينسأ له فى رزقه ويمد له فى عمره فليصل رحمه " وتفسير العارفين بالله لهذا الحديث بالنسبة لإطالة العمر يركز على أن الطول ليس فى زيادة سنوات العمر، ولكن بإعطاء البركة فيها فيحقق فى سنوات قليلة ما يعجز غيره عن تحقيقه فى مائة عام؟. وهذا هو تحدى الوقت.. فالشخص الذكى هو الذى يستطيع أن يجعل من يومه أسبوعاً ومن أسبوعه شهراً ومن شهره عاماً.... فتكون السنة الدراسية بالنسبة له كأنها عدة أعوام وهذا يتأتى بالتنظيم الجيد للدقائق مع التركيز والاستغراق بحب فى الشىء الذى بين أيدينا فالعقل مثل الكومبيوتر.. لا أستطيع إدخال معلومة إليه وتخزينها صحيحة إلا إذا ركزت فى عملية الإدخال، لأن أى خطأ أو تهاون فى عملية الإدخال سوف يترتب عليه الخطأ عند الاستدعاء. وأذكر دائماً أننى كنت أقول لأولادى ولنفسى.. عندما نرمى شيئاً فى سلة المهملات ويقع خارجها ما الذى نفعله لنصلح من هذا الخطأ؟ .. إننا ننحنى على هذا الشىء ونتناوله بأيدينا ثم نضعه بهدوء داخل السلة.. أليس كذلك؟؟ فإذا حسبنا الوقت المستنفد فى تلك العملية وجدناه أكبر بكثير من ذلك الذى يكون عند إلقاء هذا الشىء بهدوء فى السلة ومن البداية.؟؟ فلماذا لا نتأنى من البداية فى تناولنا وعملنا للأشياء؟ ولماذا لا يكون ذلك هو أسلوب حياتنا على الدوام؟؟.. لو فعلنا إذن لادخرنا الوقت والجهد وظفرنا بالعمل الجيد، وكنا ممن يحبهم الله ورسوله فالله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه. وهناك غير تحدى النفس وتحدى الغير.. وتحدى الوقت.. تحدى أنصاف النجاح وهو الرغبة فى أن يكون كل شىء يفعله الإنسان عشرة على عشرة..... أو بمعنى آخر لماذا لا يكون كل ما أعمله عشرة على عشرة، ألست قادراً على ذلك؟؟ وإذا كان غيرى قادراً عليه فلماذا لا أكون مثل هذا الغير؟؟ بل وأتفوق عليه!! ففى ذلك فليتنافس المتنافسون.. فإذا أسندت إلى نفسك عملاً من الأعمال فلا تعمله إلا وأنت راغب أن تكون نتيجة إتقانك دائماً أقرب إلى الكمال.. ولنسأل أنفسنا جميعاً: لماذا لا نفعل مع أعمالنا على الأقل مثل ما نفعل مع غرائزنا؟؟ فنحن عندما نجلس إلى مائدة الطعام لا نقوم إلا ونحن شبعانون...؟؟.. وعندما نتناول كوب الماء لا نتركه إلا بعد كمال الارتواء؟؟.... وهكذا فى كل غريزة فيها لذة الجسد فنحن لا نقوم عنها إلا بعد الإحساس بالإتقان؟!! وأن عجزنا بحثنا عن فواتح الشهية والمنشطات؟؟ فلماذا لا نجعل الكمال غريزة لنا.. فلا نقرأ موضوعاً إلا ونفهمه ولا نترك مسألة إلا ونصل فيها إلى غايتها. ولكن الشيطان دائما واقف للإنسان المستقيم بالمرصاد، فهو يزين الخطأ ويجمله.. ويقبح الصواب ويوجد له من المبررات الكثير، فيكون من الدين يا أبنائى الأعزاء أن تحاولوا الانتصار عليه وأقوى الشياطين.. شيطان النفس البعيدة عن ذكر الله.. {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (36) سورة الزخرف فيكون من الدين مقاومته وذلك بكثرة ذكر الله والتيقن من أن الله مع كل واحد منكم وشاهده وناظر إليه فمن كان مع الله كذلك فلن يعصاه ولو كان فى فلاة وحده؟ وصفوة القول إنكم أيها الأبناء إذا كانت ظروفكم الحياتية طيبة ولا تشكل عائقاً فى طريق نجاحكم وتفوقكم، أو إذا كنتم من الناجحين والمتفوقين ولا يوجد من تتحدوه فتحدوا أنفسكم وتفوقوا عليها وليقل كل منكم لنفسه: إذا كنت الأول على فصلى فسوف أحاول أن أكون الأول على المدرسة، وإذا كنت الأول على المدرسة فما المانع أن أكون الأول على الإدارة ثم المحافظة ثم الجمهورية.. ما المانع؟؟ وبعد هذا يبقى تحدى النفس المتنامى الذى يمنع من الانحدار نحو السفح بعد بلوغ القمة.. ولا أشك لحظة فى أن أولادى ليسوا أقل من أى إنسان يجلس على قمة أى نجاح، ولا أشك لحظة فى قدرتكم أيها الأبناء وذكائكم وطموحكم لنيل أفضل المراكز فى بلدكم. ..بالصبر والجهد والعرق والتمسك بالأخلاق والقيم والدين.