لعل خير ما خلفه الفاطميون لمصر وللعالم الإسلامى ذلك الأثر الإسلامى العتيق، وتلك المنارة العلمية الشامخة، وذلك الرمز الذى يحرك فى نفس كل مسلم توقه للوطنية وشوقه لعزة الإسلام، وحميته للدفاع عن وطنه ودينه. كان الأزهر الشريف – وما يزال - بيتا من بيوت الله عز وجل العامرة، يملأ النفوس بالإيمان ويشحذها باليقين، ويهيئها ويعدها للثبات فى ميدان المواجهة الحضارية فى ظرف عصيب تمر به الأمة الإسلامية، وفى وقت يسعى أعداء الإسلام بكامل قوتهم وبكل إمكانياتهم على تجريدنا من وسائل المقاومة، وعلى محو ملامحنا وتذويب هويتنا. وإلى جانب ذلك حمل الأزهر الشريف عبء المعارف الإسلامية بعد سقوط بغداد، وصار المنطقة الأخيرة التى يؤمها طلاب العلم من جميع الأقطار. وللأزهر الشريف محطات تاريخية هامة قاد علماؤه فيها الأمة، وأحيوا مواتها، واستنهضوا همم شبابها، وكان من أبرز هذه المحطات مقاومة الغزو الفرنسى لمصر ومواجهة الاحتلال الإنجليزى. لقد مر الجامع الأزهر على طول تاريخه بمراحل إصلاح، بعد أن بناه جوهر الصقلى، بعد عام من فتح الفاطميين لمصر، وقد أورد المقريزى أن جوهر بدأ عمارته فى يوم السبت لست بقين من جمادى الأولى سنة 359 هجرية، ولما أتم تشييده بعد عامين فتح للصلاة فى شهر رمضان سنة 361 هجرية الموافق يونيه.. يوليه سنة 972م. وبنى المسجد فى الجنوب الشرقى من القاهرة على مقربة من القصر الكبير الذى كان موجودا حينذاك بين حى الديلم فى الشمال وحى الترك فى الجنوب. واستمر اهتمام الفاطميين بالأزهر، وكانوا يدرسون به المذهب الشيعى، حتى تغير الحال فى عهد الأيوبيين، فمنع صلاح الدين الخطبة من الجامع، وقطع عنه كثيرا مما أوقفه عليه الحاكم بأمر الله الفاطمى، وألغى المذهب الشيعى وأعاد المذهب السنى لمصر. وانقضى نحو قرن من الزمان قبل أن يستعيد الأزهر عطف الولاة ووجوه البلاد عليه، ولما جاء الظاهر بيبرس رحمه الله زاد فى بنائه، وشجع التعليم فيه وأعاد الخطبة إليه فى عام 665 هجرية 1267 م، وهكذا استعاد الأزهر مكانته الرائدة فى النهوض بالأمة فى جميع مجالات الحياة. وفى أول محاولة إصلاحية للأزهر من الداخل صدر القانون رقم 10 لسنة 1911 م، وبهذا القانون انتقل إلى طور آخر من أطواره؛ فقد زيدت فيه مواد الدراسة، وتحدد اختصاص شيخ الجامع الأزهر، وأنشئ له مجلس تحت رئاسته يسمى مجلس الأزهر الأعلى، ووضع فيه نظام لهيئة كبار العلماء، وجعل لكل مذهب من المذاهب الأربعة شيخ، ولكل معهد من المعاهد مجلس إدارة. وهذا القانون الإصلاحى كان قد صدر فى عهد المشيخة الثانية للشيخ سليم البشرى رحمه الله، واستمر الأزهر خاضعا لهذا القانون مع ما لحقه من التعديل إلى أن صدر القانون رقم 33 لسنة 1923م بإنشاء قسم للتخصص. وفى 24 جمادى الآخرة سنة 1349 هجرية صدر القانون رقم 49 لسنة 1930م بإعادة تنظيم الجامع الأزهر، وقد صدر هذا القانون فى عهد الشيخ محمد الأحمدى الظاهرى عندما أنشئت كلية دار العلوم والجامعة المصرية، فقد نظمت الدراسة بالأزهر نظاما جديدا؛ فقد جعل هذا القانون التعليم فى الأزهر أربع مراحل، وهى كالآتى: - ابتدائى ومدته أربع سنوات. - ثانوى ومدته خمس سنوات، ويدرس فيه إلى جانب العلوم الشرعية وعلوم اللغة والرياضيات والعلوم الطبيعية والكيمياء والتاريخ والجغرافيا. - المرحلة العالية ومدتها أربع سنوات وينقسم إلى ثلاث كليات وهى: كلية اللغة العربية.. كلية الشريعة.. كلية أصول الدين. - المرحلة الرابعة وهى مرحلة التخصص، والغرض من هذه المرحلة إعداد علماء يقومون بالوعظ أو الوظائف القضائية بالمحاكم الشرعية والإفتاء والمحاماة، وإعداد علماء متفوقين فى العلوم الأساسية لكل كلية من الكليات الثلاث. قضى قانون 193 بتأليف هيئة تشريعية لها حق النظر فى اللوائح والقوانين التى تلزم لسير الدراسة والإدارة وغيرها فى الأزهر والمعاهد الدينية وتسمى مجلس الأزهر الأعلى. ويذكر أن هذا القانون قد نقل الطلاب من المساجد إلى المبانى النظامية، واستبدل بنظام الحلقات نظام المحاضرات. أما بالنسبة للقانون رقم 103 لسنة 1961م، فهو ذلك القانون الذى تناول الأزهر من جذوره إلى قمته بالتغيير والتعديل والتنظيم، وهو القانون الذى أعاد للأزهر الشريف مكانته العلمية. لقد آثرت أن أبدأ بهذا العرض الموجز لتاريخ الإصلاح داخل هذا الصرح الإسلامى العتيق، ولا شك أن الأزهر قد تعرض على الخط الموازى لمحاولات الإصلاح لمحاولات معاكسة فى اتجاه تقويض جهود المصلحين. وفى اتجاه تفريغ الأزهر من دوره، ومن ضمن جهود هذا الفريق كان توحيد التعليم، وتقليص سنوات الدراسة وتخفيض حصص القرآن والمواد الشرعية، وإثقال كاهل الطلاب بالمواد الثقافية واللغات منذ المرحلة الابتدائية مثل الموسيقى والرسم على حساب حصص القرآن والمواد الشرعية. واليوم تتفجر علامة استفهام كبيرة، لماذا طلاب الأزهر، والأزهر فقط الذين يتعرضون للتسمم، ويتكرر الأمر فى أيام قليلة، فهل هذه صدفة؟ أم أمر مدبر فى سبيل تحقيق الحلم لمجموعة من الحاقدين على الأزهر وما يمثله من منارة للدين، ولواء للشريعة، فيبثون الرعب فى قلوب المصريين ليعرضوا عن التعليم الأزهرى؟ ولست ممن يعولون كثيرا على نظرية المؤامرة، ولكنى أشم رائحة عفنة وراء تلك الحملة الممنهجة القديمة الحديثة، والتى تسعى لإضعاف دور الأزهر، وللتهوين من طلابه، ومحاولة تحويله لتعليم من الدرجة العاشرة. ولذلك لابد من وقفة حاسمة مع هذه الهجمة الشرسة. أيها المسئولون: طلاب الأزهر هم أبناء هذا الشعب، وليسوا درجة ثانية، فلن يسمح الشعب المسلم بإضعاف الأزهر. وبدلا من توجيه الأحداث توجيها سلبيا، واختزال الأمر فى شخص شيخ الأزهر، اهتموا بالطلاب، وادرسوا مشاكلهم، إذا كنتم حريصين على أبناء مصر كما تزعمون. إننى كواحد من أبناء الأزهر أغار عليه، وأشفق على هذا الصرح العملاق من محاولات الحد من تأثيره ونفوذه فى نفوس أبنائه ونفوس المسلمين. ولكننى - رغم كل شىء - على يقين بأن الأزهر سيظل حتى مع تلك المحاولات شامخا وقويا ومؤثرا . نعم سيظل الأزهر منارة الإسلام ومهد القرآن ومحصن اللغة العربية، سيظل المدرسة التى تخرج العلماء والخطباء والبلغاء ودعاة الإسلام الكبار وفقهاؤه العظام. فالذى لا يعرفه الكثيرون أن الأزهر لم يفقد دوره وتأثيره حتى فى فترات ضعفه واضمحلاله وإهماله؛ حدث ذلك فى صدر الدولة الأيوبية، عندما أهمله الأيوبيون بعد قضائهم على الدولة الفاطمية. وحدث أيضا بعد دخول العثمانيين مصر، فقد ظل الأزهر - رغم كل المحاولات التى هدفت لإضعافه - ملاذا للدين والفقه واللغة، ومنطلقا للوطنية، ومنبعا لثورات الشعب ضد الظلم والاضطهاد والاحتلال، وسيظل هو الرحم الذى يولد منه شيوخ الإسلام الكبار ومفكريه العظام، وسيظل يلقى بأشعة التنوير والإيمان والمعرفة على ربوع العالم كله. نعم سيظل الأزهر الشريف - رغم كل شىء – هو صرح الإسلام الشامخ.