لعل خير ما خلفه الفاطميون لمصر وللعالم الإسلامي ذلك الأثر الإسلامي العتيق، وتلك المنارة العلمية الشامخة، وذلك الرمز الذي يحرك في نفس كل مسلم توقه للوطنية وشوقه لعزة الإسلام، وحميته للدفاع عن وطنه ودينه. كان الأزهر الشريف – ولا يزال - بيتًا من بيوت الله، عز وجل، العامرة، يملأ النفوس بالإيمان ويشحذها باليقين، ويهيئها ويعدها للثبات في ميدان المواجهة الحضارية في ظرف عصيب تمر به الأمة الإسلامية، وفي وقت يسعى أعداء الإسلام بكامل قوتهم وبكل إمكانياتهم على تجريدنا من وسائل المقاومة، وعلى محو ملامحنا وتذويب هويتنا. وإلى جانب ذلك حمل الأزهر الشريف عبء المعارف الإسلامية بعد سقوط بغداد، وصار المثابة الأخيرة التي يؤمها طلاب العلم من جميع الأقطار. وللأزهر الشريف محطات تاريخية هامة قاد علماؤه فيها الأمة، وأحيوا مواتها، واستنهضوا همم شبابها، وكان من أبرز هذه المحطات مقاومة الغزو الفرنسي لمصر ومواجهة الاحتلال الإنجليزي. قضى قانون 193 بتأليف هيئة تشريعية لها حق النظر في اللوائح والقوانين التي تلزم لسير الدراسة والإدارة وغيرها في الأزهر والمعاهد الدينية وتسمى مجلس الأزهر الأعلى. ويذكر أن هذا القانون قد نقل الطلاب من المساجد إلى المباني النظامية, واستبدل بنظام الحلقات نظام المحاضرات. أما بالنسبة للقانون رقم 103 لسنة 1961م, فهو ذلك القانون الذي تناول الأزهر من جذوره إلى قمته بالتغيير والتعديل والتنظيم, وهو القانون الذي أعاد للأزهر الشريف مكانته العلمية. لقد آثرت أن أبدأ بهذا العرض الموجز لتاريخ الإصلاح داخل هذا الصرح الإسلامي العتيق, ولا شك أن الأزهر قد تعرض على الخط الموازي لمحاولات الإصلاح لمحاولات معاكسة في اتجاه تقويض جهود المصلحين. وفي اتجاه تفريغ الأزهر من دوره, ومن ضمن جهود هذا الفريق كان توحيد التعليم, وتقليص سنوات الدراسة وتخفيض حصص القرآن والمواد الشرعية, وإثقال كاهل الطلاب بالمواد الثقافية واللغات منذ المرحلة الابتدائية مثل الموسيقى والرسم على حساب حصص القرآن والمواد الشرعية. واليوم تتفجر علامة استفهام كبيرة، لماذا طلاب الأزهر، والأزهر فقط الذين يتعرضون للتسمم، ويتكرر الأمر في أيام قليلة، فهل هذه صدفة؟ أم أمر مدبر في سبيل تحقيق الحلم لمجموعة من الحاقدين على الأزهر وما يمثله من منارة للدين، ولواء للشريعة، فيبثون الرعب في قلوب المصريين ليعرضوا عن التعليم الأزهري؟ ولست ممن يعولون كثيرًا على نظرية المؤامرة، ولكني أشم رائحة عفنة وراء تلك الحملة الممنهجة القديمة الحديثة، والتي تسعى لإضعاف دور الأزهر، وللتهوين من طلابه، ومحاولة تحويله لتعليم من الدرجة العاشرة. ولذلك لابد من وقفة حاسمة مع هذه الهجمة الشرسة من العلمانيين وبعض غلاة النصارى في الداخل والخارج، فالأزهر يؤرقهم، والقرآن الذي يحفظه الصغار بين جدرانه يمرضهم. أيها المسؤولون: طلاب الأزهر هم أبناء هذا الشعب، وليسوا درجة ثانية، فلن يسمح الشعب المسلم بإضعاف الأزهر. وبدلًا من توجيه الأحداث توجيهًا سلبيًا، واختزال الأمر في شخص شيخ الأزهر، اهتموا بالطلاب، وادرسوا مشاكلهم، إذا كنتم حريصين على أبناء مصر كما تزعمون. إنني كواحد من أبناء الأزهر أغار عليه, وأشفق على هذا الصرح العملاق من محاولات الحد من تأثيره ونفوذه في نفوس أبنائه ونفوس المسلمين. ولكنني - رغم كل شيء - على يقين بأن الأزهر سيظل حتى مع تلك المحاولات شامخًا وقويًا ومؤثرًا. نعم سيظل الأزهر منارة الإسلام ومهد القرآن ومحصن اللغة العربية, سيظل المدرسة التي تخرج العلماء والخطباء والبلغاء ودعاة الإسلام الكبار وفقهاءه العظام. فالذي لا يعرفه الكثيرون أن الأزهر لم يفقد دوره وتأثيره حتى في فترات ضعفه واضمحلاله وإهماله؛ حدث ذلك في صدر الدولة الأيوبية, عندما أهمله الأيوبيون بعد قضائهم على الدولة الفاطمية. وحدث أيضًا بعد دخول العثمانيين مصر, فقد ظل الأزهر - رغم كل المحاولات التي هدفت لإضعافه - ملاذًا للدين والفقه واللغة, ومنطلقًا للوطنية, ومنبعًا لثورات الشعب ضد الظلم والاضطهاد والاحتلال, وسيظل هو الرحم الذي يولد منه شيوخ الإسلام الكبار ومفكريه العظام, وسيظل يلقي بأشعة التنوير والإيمان والمعرفة على ربوع العالم كله. نعم سيظل الأزهر الشريف - رغم كل شيء - هو صرح الإسلام الشامخ.