من المعروف أن نمط ملكية وسائل الإعلام «مكتوبة ومسموعة ومرئية» هو الذى يحدد إلى درجة كبيرة مضمون الرسالة التى تحتويها هذه الوسائل ودرجة الحياد والموضوعية التى تتمتع بها، وفى النظم السياسية الشمولية، كما هو الحال فى مصر، فإن إحدى الأدوات الأساسية التى تعتمد عليها تلك النظم لبث دعايتها هى وسائل الإعلام، ولذلك فإن الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون تكون مملوكة للدولة ملكية مباشرة وتمارس عليها رقابة صارمة. وفى عهد المخلوع حسنى مبارك اتسع «هامش الحرية» الممنوح للصحف الحزبية، والقومية كذلك، ولكن المشكلة الأساسية بقيت فى تحكم النظام بشكل كامل فى تعيينات رؤساء تحرير ورؤساء مجالس إدارة الصحف القومية، رغم أن ذلك كان يتم نظريا باسم المجلس الأعلى للصحافة التابع لمجلس الشورى، وكان الحزب الوطنى المنحل يسيطر سيطرة كاملة على مجلس الشورى، وكان دوره يقتصر على إقرار، أو رفع الأيدى بالموافقة، على الترشيحات التى يتم تلقيها أساسا من رئاسة الجمهورية عبر صفوت الشريف، وزير الإعلام السابق، ورغم أن القانون ينص على استقلالية الصحف القومية «عن السلطة التنفيذية وجميع الأحزاب» فإن ذلك مستحيل عمليا إذا كان هناك حزب واحد يسيطر على أغلبية مقاعد مجلس الشورى، لأنه من المنطقى أن ينحاز أعضاء ذلك الحزب إلى رؤساء تحرير يميلون أو يتعاطفون مع مصالحه وتوجهه السياسى، وبالطبع ينطبق ذلك على الحزب الوطنى المنحل، كما ينطبق الآن على حزب الحرية والعدالة الذى يسيطر مع حزب النور السلفى على 90 فى المائة من مقاعد مجلس الشورى. نظام المخلوع كان يكره التغيير بشكل عام، وبالتالى تحولت الصحف القومية إلى ما يشبه الإمبراطوريات الخاصة نتيجة لأن القيادات التى عينها مبارك منذ وصوله للحكم بقيت فى مناصبها ما يقترب من ربع قرن، وجرت أول عملية تغيير واسعة لرؤساء تحرير ورؤساء مجالس إدارة الصحف القومية فى عهد مبارك فى العام 2005، وكان الاعتقاد السائد أن نجل المخلوع، جمال مبارك، هو الذى دفع شخصيا نحو عملية التغيير فى ذلك الوقت لضمان أوسع تأييد ممكن لمشروع التوريث، ورغم تغيير رؤساء تحرير الصحف بقى الولاء مباشرا لرئيس الجمهورية وللحزب الحاكم فى ذلك الوقت، ومن المعروف أن موافقة جهاز أمن الدولة كانت ضرورية ومسبقة لتعيين ليس رؤساء التحرير فقط، بل لتعيين أى صحفى فى المؤسسات القومية. وفى أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير تزايدت المطالب الداعية إلى إعادة النظر بشكل كامل فى نمط الملكية القائم للصحف القومية، وإذا ما كان من الضرورى أو المطلوب أساسا أن تمتلك الدولة كل هذا الكم من الصحف والمجلات والمطبوعات، ويتولى مجلس الشورى حاليا مسؤولية تعيين رؤساء التحرير لخمسة وخمسين مطبوعة تابعة للدولة، وكثير منها يعانى من سوء الأوضاع المالية وتضخم عدد العاملين فيها وقلة الموارد. وبجانب البعد السياسى الخاص برغبة الحزب الحاكم «الوطنى سابقا والحرية والعدالة الآن» فى استمرار السيطرة على الصحف القومية لاستغلالها كبوق دعاية له، فإن البعد الآخر الذى يعيق من عملية إصلاح هذه المؤسسات اجتماعى - اقتصادى بحت، فكيف يمكن إعادة هيكلة هذه الصحف وتحويلها إلى مؤسسات ناجحة مع استمرار الاحتفاظ بهذا الكم الهائل من الصحفيين الذين يزيد عددهم فى المؤسسات القومية على نحو أربعة آلاف صحفى؟ ومن المؤكد أن عملية إصلاح حقيقية للمؤسسات الصحفية القومية ستتطلب التخلص من أعداد كبيرة من العاملين فيها، وهو ما يدفع للتفكير فى بدائل مثل السماح بالمعاش المبكر، ومنح تعويضات، وإعادة التدريب والتأهيل. ورغم النفى الرسمى لحزب الحرية والعدالة رغبته فى السيطرة على الصحف واستخدامها كأداة للدعاية، فإن كل المؤشرات تفيد حتى الآن بأنه لن يحدث تغيير فى نمط الملكية وتبعية هذه المؤسسات للدولة، كما أن المواد الخاصة بالصحافة فى الدستور الذى كتبه الإخوان والأحزاب الإسلامية المتحالفة مع الجماعة بمفردهم، بعد انسحاب ممثلى الأحزاب المدنية والكنيسة والمرأة، تنص على استمرار ملكية الصحف القومية للدولة، ولكن مع تشكيل هيئة «مستقلة» جديدة تتولى الإشراف عليها بدلا من المجلس الأعلى للصحافة، تحت اسم «المجلس الوطنى للصحافة» أو «المجلس الأعلى للصحافة والإعلام المسموع والمرئى»، ولكن ما زالت التفاصيل غامضة بشأن كيفية اختيار أعضاء هذه المجالس وعدد أعضائها وصلاحياتها وطريقة ضمان استقلالها الفعلى عن «السلطة التنفيذية وجميع الأحزاب». ولم يقم الدستور الحالى بالنص على عدم جواز حبس الصحفيين فى قضايا النشر، والأسوأ أنه أعاد إمكانية إغلاق الصحف بحكم قضائى، بعد أن كان نضال الصحفيين قد دفع النظام السابق إلى التخلى عن هذه العقوبة على اعتبار أن المسؤولية عادة ما تكون شخصية فى حال ارتكاب أحد الصحفيين مخالفة أو جنحة سب وقذف، وبالتالى لا يجوز إنزال عقوبة جماعية بكل الصحفيين والعاملين وإغلاق الصحيفة بأكملها. وجاءت الطريقة التى أعاد بها حزب الحرية والعدالة تشكيل المجلس الأعلى للصحافة لتزيد قناعة العديد من المعنيين بهذا الملف بأنه لن يحدث تغيير حقيقى فى المستقبل القريب لنمط ملكية الصحف القومية أو العلاقة التى تربطها بالسلطة التنفيذية. وبينما أصبحت حرية إصدار الصحف أكثر سهولة فى أعقاب ثورة 25 يناير، فإن هناك احتياجا كبيرا لإعادة النظر فى السلطات الواسعة التى يتمتع بها المجلس الأعلى للصحافة فى هذا المجال، ولكن يبقى التحدى الأهم والأصعب هو إعادة النظر بشكل كامل فى نمط ملكية الصحف فى مصر، وخضوع أغلبية الصحف المؤثرة وواسعة الانتشار لملكية الدولة، أو مجلس الشورى الذى تتحكم فيه الأغلبية الحزبية، أكثر من اعتبارات المهنية وحق القراء فى الاطلاع على معلومات صحيحة تتمتع بالمصداقية.