نجحت ثورة 25 يناير في إزاحة طاغية ونظام مستبد لكنها فتحت الباب لقهر من نوع وطغيان من نوع آخر، ألا وهي بلطجة الباعة الجائلين الذين لا يعيرون آثارنا وتاريخنا اهتماما، بل قتلوا كل معاني الجمال في مصر القديمة. على بعد خطوات من باب زويله بمنطقة مصر الفاطمية، وفي أكثر مناطق القاهرة شعبية، يلفت أنظارك مبني شامخ يكسوه الرخام، مصحوبة بنقوش ذات طابع خاص، يصعب على من يشاهده مره نسيان، خاصة أنه يأتي من التاريخ حاملا عبقه، يحمل روح المنطقة وأهلها، الذين يسيرون أمامه بوجوه لا تريد أن تفارقة. أنشأ هذا السبيل محمد على باشا وذلك صدقة على روح ولده إسماعيل باشا والذي توفى في السودان عام 1238 ه - 1822 م، ونشاهد واجهة السبيل مكسوة بالرخام المحلى بنقوش وكتابات جميلة، وواجهته مكونة من أربعة أضلاع يغطى كل منها شباك نحاسي مصبوب به رسوم بيضاوية يتخللها توريق، وقد كسيت هذه الأضلاع بالرخام من أسفلها إلى أعلاها، وحليت خواصر عقود الشبابيك بزخارف مورقة أقرب إلى الزخرف، يعلو كل شباك لوحة مكتوبة بالتركية وتاريخ سنة 1244 ه، يعلوها عقد بداخله زخارف يغطى الجميع رفرف خشبي حلى بزخارف مذهبة، وتتصل به من طرفيه أبنية المدرسة. السبيل تمرد على العصر المعماري المملوكي، واتخذ لنفسه طرازا خاصا، من حيث المكان، كما تم استيراد أخشاب ورخام أبيض من تركيا، واختار أن يشيد مبنى بهذه الضخامة والفخامة ليبرز سلطته السياسية، وتعرض اللوحات المنقوشة بكتابة عثمانية على الواجهة أبياتا شعرية، واسم محمود الثاني، سلطان الدولة العثمانية آنذاك، التي كانت مصر جزءا منها وكان محمد على واليه عليها. التاريخ يروي أن السبيل بني ليخلد ذكرى طوسون بن محمد على، الذي مات بالطاعون قبل إنشائه بثلاث سنوات، وعمره 22 عاما، وكان أحب أبنائه إليه، ولم يدخر الأب المكلوم جهدا أو مالا في بناء السبيل لطبع القاهرة بأثر باق يخلد وجود أسرته وأهميتها، وكان السبيل أيضا نقطة في معمار القاهرة، فطراز الزخرفة الغنية المنحوتة على الرخام على الواجهة المقوسة كان جديدا تماما، وكان هذا الطراز الذي ظهر في مبان كثيرة في إسطنبول تحويرا عثمانيا لطراز الباروك الأوربي، لكنه كان تحويرا حديثا للغاية في عصره مع عنصر كلاسيكي قوي، كذلك كانت الأفاريز الخشبية البارزة المنقوشة الغنية بالنحت متأثرة بطرز معمارية تركية. الباعه الجائلون والقمامة المحيطة بالسبيل قتلت كل هذا الجمال، والتحفة المعمارية الفريدة، فلا تتخيل أن يكون هذا التاريخ وسط القمامة، فقد أحاطت به أكياس القمامة وعربات الباعة من جميع الجهات، بل ترى تلك العربات فوق سور المبني دون اهتمام من أحد، والغريب أنه مع كل هذا السحر هجره الزائرون، فلا ثمة لشخص سوى العاملات بالمبنى، والسؤال الذي يطرح نفسه هل أزمة الباعة الجائلين لا تجد حالا ؟