يعتبر سبيل الناصر محمد بن قلاوون «أثر رقم 561» والموجود بشارع بين القصرين أقدم هذه الأسبلة، يرجع تاريخ إنشائه إلى عام 726 هجرية - 1326م، إنه أقدم سبيل بالقاهرة، خمسة أسبلة أخرى تنتمى إلى العصر المملوكى: سبيل الأمير شيخون بالصليبة «755ه- 1354م أثر رقم 144»، سبيل الوفائية بالخليفة «846ه - 1442م- أثر رقم 557»، سبيل مسجد تمرار الأحمدى «876ه - 1472م- أثر رقم 216»، سبيل السلطان قايتباى بالأزهر «897ه - 1474م- أثر رقم 412»، ويوجد سبيل آخر بناه السلطان قايتباى أيضاً بالصليبة «884ه- 1479م - أثر رقم 324»، يوجد سبيلان آخران ينتميان إلى نهاية العصر المملوكى، يوجد الأول داخل مسجد السلطان الغورى، والآخر داخل قبته المبنية أمام المسجد. سلاطين المماليك هم أول من اهتم ببناء الأسبلة، وأولوها عنايتهم، وأوقفوا عليها الأوقاف الواسعة، جاء فى وثيقة وقف السلطان قايتباى: «ووَقْف السبيلان وهما السبيلان المرخم الكبير الذى هو بواجهة الجامع الشريف المذكورة أعلاه على الطريق الجادة مما يلى الجامع الكبير، والسبيل المبلط الصغير الذى من جهة الباب الصغير من بابى الجامع المذكور لتسبيل الماء العذب من ماء النيل المبارك بهما للناس على الدوام. ووقف الصهريجين اللذين بالسبيلين المذكورين حاصل لاستقرار ماء النيل المذكور بهما ليسبل ذلك شيئاً فشيئاً للناس على العادة فى ذلك على الدوام». وفى وثيقة السلطان الغورى نجد: «وأما السبيل فوقفه للانتفاع به فى تسبيل الماء على المارة فى الطريق». نصت وثائق الأوقاف فى معظمها على أن يكون الماء عذباً ومن النيل، وأن يتوفر الماء طوال العام صيفاً وشتاء، خاصة فى الصيف حيث يتزايد استهلاك المياه، تتضمن وثيقة وقف السلطان قايتباى: «يصرف فى كل شهر يمضى من شهور الأهلة من الفلوس الموصوفة أعلاه ألف درهم، نصفها خمس مائة درهم، أو ما يقوم مقام ذلك من النقود عند الصرف، يشترى بذلك ماء عذب من ماء النيل المبارك موزعاً فى طول أيام الشهر بالسوية، يسبل ذلك مزملاتى هذا السبيل لجميع من يرد على ذلك من الناس فى أوانى السبيل المذكور، سفل الربع الظاهرى، فى زمن التسبيل المعين بسبيلى الجامع المذكور أعلاه، على ما تقدم شرحه وبيانه أعلاه، وإذا رأى الناظر على ذلك أن القدر المعين صرفه فى كل شهر لثمن ماء السبيل الكائن تحت الربع الظاهرى يفضل منه شىء فى أيام الشتاء لقلة شرب الناس فيه، فيدخر الفاضل من أيام الشتاء لأيام الصيف، ويزيده فى ثمن الماء المسبل فى أيام الصيف، فيصرف الناظر فى ذلك بما يرى فيه الحظ والمصلحة، بحيث لا يفرط فى ذلك ولا يفرّط، ولا يخرج فى سلوكه عن السنن المتوسط». والمزملاتى هو الشخص المسؤول عن تزويد السبيل بالمياه، وقد وضعت شروط عديدة لمن يتولى هذه الوظيفة نصت عليها كتب الحسبة وكذلك وثائق الأوقاف، منها أن يكون المزملاتى نظيفاً، جميل الهيئة، سليم البدن من العلل والأمراض المعدية، خالياً من العاهات، وموضع ثقة وأن يعامل الناس بالحسنى، والرفق، ليكون سبباً فى إدخال الراحة على الواردين والقاصدين السبيل، كذلك يتولى نظافة السبيل، والعناية بالأدوات اللازمة له، مثل الكيزان، وأوعية الشرب، وأدوات التنظيف، نفس العناية الموجهة لتسبيل المياه، كانت أيضاً تحيط بالأدوات المستخدمة، مثل الليف اللازم للتنظيف، والمكانس، دلاء الجلد، وأوانى الشرب، والأسطال النحاسية، والأباريق، وقلل الفخار، والسفنج، وفوط المسح، وخصص أصحاب الأسبلة أماكن لحفظ هذه الأدوات، كان المكان منها يعرف باسم الخوستان أو الخرستان أى الخزانة الخشبية. وكان تزويد الأسبلة بالمياه يتم طوال ساعات النهار، أما فى شهر رمضان فتتغير المواعيد، يبدأ تسبيل المياه بعد الغروب إلى ما بعد صلاة التراويح. تنص وثيقة وقف السلطان الغورى على تسبيل المياه فى جميع أوقات النهار من شروق الشمس إلى غروبها، وحتى نزول الليل، وإيواء الناس فى بيوتهم وانقطاع الرِجل عن الطرقات، يسرى هذا فى جميع الأيام، عدا شهر رمضان، حيث نصت الوثيقة على ضرورة بدء تسبيل المياه أول وقت الغروب إلى أن يأوى الناس إلى مساكنهم. بعض الواقفين اكتفوا بالنص على فتح السبيل فى أوقات الحر الشديد، من الظهر إلى العصر، فيما عدا شهر رمضان فيفتح السبيل من المغرب إلى العشاء، وعندما ينزل الليل، كان المزملاتى يملأ أحد الأوعية ويضعه عند مقدمة السبيل، وإلى جواره كوز، حتى إذا احتاج أحد المارة فى أى وقت من الليل إلى شربة ماء أمكنه أن يجدها. لم يكن الاهتمام بتقديم المياه العذبة إلى الناس فقط، بل شمل ذلك أيضاً الحيوانات.. عرف العصر المملوكى كثيرا من أحواض المياه الموقوفة سبيلاً لله لسقى الدواب، تقول وثيقة وقف السلطان الغورى: «ووقف حوض السبيل المذكور أعلاه، بالقرب من الجامع المذكور فيه، وفسقية الحوض المذكور المجاورة له لاستقرار الماء الذى يجرى إليها من بير الساقية المذكورة أعلاه المعلقة بذلك، لينتفع به فى سقى الدواب المارة على ذلك، والمترددة إليه، وفى غير ذلك من الانتفاعات الشرعية على العادة، فى ذلك، وجعله سبيلاً إلى الله». وأذكر أننى رأيت أحد الأحواض المخصصة لسقى الدواب فى الجمالية، ومازال قائماً حتى يومنا هذا أمام مبنى قسم الجمالية فى ميدان بيت القاضى، حوض مستطيل بنى من الحجر، كانت الأحصنة والبغال والحمير تصطف حوله لتعب الماء، بينما يتناثر فوق مياهه ذرات التبن، وكان يزود بالماء من الحنفية العمومية المجاورة له، ولكن فى السنوات الأخيرة رأيت هذا الحوض جافاً، خلواً من الماء، نضب كما نضبت الأسبلة، واختفت علامة من علامات الرحمة. فى مرج دابق، شمال حلب، انتهى الزمن المملوكى، بعد أن هزم الجيش المصرى، وقتل السلطان الغورى، تمكن العثمانيون من مصر حامية الحرمين، وحارسة البحرين، وبدأ الزمن العثمانى، وشملت القاهرة تغيرات عديدة، ظهر الطابع العثمانى فى العمارة، انتصبت المآذن النحيلة فى الفراغ فوق المساجد التى أقيمت فى هذا الزمن، المآذن الخالية من زخرف. ورغم التدهور الذى أصاب مصر والتخلف، فإن ثمة عناصر من الزمن المولى، المندثر بقيت، منها اهتمام عدد من الأمراء بالبناء، وأعمال الخير، التى كان الكثير منها يبرر - فى نظر أنفسهم - قسوتهم وظلمهم، واستمر بناء الأسبلة بعد عام 1517، عام الانكسارة العظمى، والمصيبة التى طمّت، والكارثة التى حلّت. استمر بناء الأسبلة لأنها ضرورة لاستمرار الحياة فى المدينة، ونلاحظ أنه لحق بعمارتها بعض التغيير، كان السبيل فى العصر المملوكى ملحقاً بالمسجد أو يشغل ركناً منه. فى العصر العثمانى استقل، وأصبح وحدة معمارية منفصلة مستقلة، فى البداية كان مربع الواجهة تزينه نوافذ نحاسية جميلة يمكن للمار أن يمد يده من خلالها ليشرب الماء من الحوض الرخامى ناصع البياض الذى يلى النافذة، وكان الصهريج الذى يتم تخزين المياه فيه، يوضع فى مستوى أقل من مستوى الأرض، وفوق الجزء الأوسط المخصص لتقديم مياه الشرب يقع الكتاب، ويتم الصعود إليه بواسطة سلم يؤدى إلى غرفة الدراسة الرحبة والمحاطة بشرفة تتيح تجدد الهواء، أقيمت فيها العمد، تتوسطها قطع من المشربيات الخشبية الأنيقة، وتحت الأعمدة توجد الكوابيل الخشبية المزخرفة، ومثل هذه الأسبلة يمكننا أن نراها فى الشام، واسطانبول. أقدم سبيل عثمانى وصل إلينا، سبيل وكتاب خسرو باشا بالنحاسين، (942ه- 1535م- أثر رقم 52)، أى بنى بعد الغزو العثمانى بربع قرن، يليه سبيل يوسف الكردى فى القرن السادس عشر (أثر رقم 213)، ثم سبيل الأمير محمد (114ه- 1605م- أثر رقم 14)، ثم سبيل القزلار (1619م- أثر رقم 265)، ثم سبيل مصطفى سنان (1630م- أثر رقم 264م). فى هذه الأسبلة يمكننا أن نلاحظ عناصر الصراع فى المعمار، بين طراز الأسبلة المصرى الأصيل، كما عرف فى العصر المملوكى، وطراز الأسبلة العثمانية الوافد، الدخيل، ويمكن القول إن عناصر العمارة المصرية كانت هى الغالبة، كان التمسك بالجذور قويًا، نفس هذا الصراع يمكننا أن نلحظه فى طراز المساجد أيضًا، ولكن مع بداية القرن التاسع عشر، نلاحظ أن عناصر العمارة العثمانية قد بسطت سطوتها، مع عدم اختفاء عناصر الصراع والمقاومة، غير أن طابع المحتل كان هو المسيطر، لقد استدارت واجهة السبيل وأصبحت تشتمل على تقويسات تعلو نوافذه، وصارت له قاعدة تلف حوله بدرجات من المرمر، وأوضح مثال على هذا الطراز سبيل محمد على بالنحاسين الذى يقع فى مواجهة مجموعة آثار قلاوون، وسبيله بالعقادين الذى يقوم فى مواجهة مسجد المؤيد، وسبيل أم عباس الشهير بشارع الصليبة، وسبيل رقية دودو. لقد احتاجت العمارة العثمانية الدخيلة أكثر من ثلاثمائة عام لتقهر عناصر العمارة المصرية، وعندما قهرتها كان العصر كله ينبئ بالزوال، وعلى الرغم من وجود هذه النماذج المحدودة فإن التقاليد المعمارية المصرية القديمة كانت لها الغلبة. فى سبيل سليمان أغا حنفى بقرافة المماليك القبلية نجد أنه ملحق بالضريح كجزء من البناء ذاته، وقد بنى حوالى عام 1206ه - 1792م كذلك سبيل سليمان السلحدار (1839) الملحق بمدرسته والمجاورة لحارة بيرجوان مسقط رأس المؤرخ الكبير المقريزى. تمامًا كأسبلة سلاطين المماليك العظام الذين ولى عصرهم فى موقعة مرج دابق شمال حلب. من أسبلة القاهرة إذا مضينا إلى شارع شيخون سنرى سبيل السلطان قايتباى، إنه واحد من أجمل أسبلة الزمن المملوكى، تطالعنا واجهتان شامختان كسيتا بالرخام الملون، تعلوه لوحة عسلية عليها كتابة نصها: «أمر بإنشاء هذا السبيل المبارك السعيد من فضل الله تعالى وجزيل عطائه العميم مولانا المقام الشريف السلطان المالك الملك الأشرف أبوالنصر قايتباى بتاريخ شهر ذى الحجة سنة أربع وثمانى مائة». يعلو هذا السبيل كتاب لتعليم الأطفال وتحفيظهم القرآن الكريم، ويعتبر السلطان قايتباى أول من خصص هذا الجزء للتعليم فى الأسبلة. إذا مضينا إلى شارع المعز لدين الله، حيث تتجاور الآن عصور متباعدة، وإذ بدأنا المشى من بوابة الفتوح وحتى بوابة زويلة فسنرى عدداً كبيراً من الأسبلة، لا يتجمع مثله فى أى مكان بمصر، قرب حارة بيرجوان، ومدخل الدرب الأصفر، نرى سبيل سليمان السلحدار الملاصق لمدرسته، وينتمى إلى القرن التاسع عشر، إذا تقدمنا قليلاً، وتجاوزنا مسجد الأقمر الفاطمى، وشارع الخرنفش، ثم أولينا ظهورنا للصاغة، وتطلعنا، سيواجهنا أجمل أسبلة القاهرة على الإطلاق فى رأيى، سبيل وكُتَّاب بين القصرين، الذى أنشأه الأمير عبدالرحمن كتخدا (1744)، والأمير عبدالرحمن كتخدا من بنائى القاهرة العظام، إذ شيد ثمانية عشر مسجداً، وأجرى توسعات مهمة فى الأزهر، وأقام العديد من الأضرحة، وأصلح عدداً كبيراً من المساجد والمدارس المملوكية.. هذا السبيل على الرغم من أنه بنى فى العصر العثمانى، فإنه احتفظ بتقاليد العمارة المصرية وشخصيتها الأصيلة.. يقع السبيل فى مفترق الطرق، الطريق المؤدى إلى شارع التمبكشية، والطريق المؤدى إلى الخرنفش، يطل على شارع المعز لدين الله بواجهتين: واحدة أمامية، والأخرى جانبية، وعلى الشارع الآخر بواجهة ثالثة، كل واجهة من الثلاث لها فتحات عقودها من الرخام الملون، عليها شبابيك من النحاس الجميل، ويعلو السبيل كُتاب تحيطه مظلات خشبية وحواجز من الخشب المشغول الجميل، وقد نقشت على الحواجز الخشبية كتابات بها اسم المنشئ وتاريخ الإنشاء: «أنشأه الأمير عبدالرحمن كتخدا مستحفظان بن المرحوم حسن كتخدا القازغلى غفر الله له سنة 1157ه». على ناصية حارة الروم، وفى مواجهة مسجد المؤيد شيخ، نرى سبيلا آخر بناه محمد على باشا، وهذا السبيل أقيم قبل السبيل الموجود فى النحاسين، إذ بنى عام 1236 ه - 1820م، صدقة على روح الأمير طوسون المتوفى عام 1231 ه - 1816م، وملحق به كُتاب لتعليم الأطفال، إنه يشبه سبيل محمد على بالنحاسين، الواجهة مكسوة بالرخام الأبيض، بها خمسة شبابيك من النحاس المصبوب فى أشكال زخرفية، كل شباك تعلوه لوحة رخامية بها كتابات تركية تعلوها زخارف مورقة يتوسط بعضها طرة، والأخرى عبارة «ما شاء الله»، يغطى الجميع رفرف خشبى بارز محلى بالنقوش، أما حجرة السبيل فمغطاة من الخارج بألواح من الرصاص، أما داخلها فمغطى بالنقوش الملونة. من أشهر أسبلة القاهرة، سبيل أم عباس، بشارع الصليبة، إنه عثمانى الطراز تماماً، أنشئ عام 1284 ه - 1867م مبناه فسيح، متسع، أرضه مفروشة بالرخام وسقفه منقوش بالأصباغ الذهبية، شبابيكه من النحاس الأصفر، تتخللها دوائر عليها آيات قرآنية. أمرت بإنشائه والدة الوالى عباس الأول، إنه أحد آخر سبيلين تم بناؤهما فى القاهرة، أما السبيل الآخر، فهو سبيل أم حسين بك، ويقع فى نهاية شارع الجمهورية قرب نهايته من ناحية ميدان رمسيس، أنشئ عام 1286 ه - 1869م. بعده لم يقم فى القاهرة سبيل آخر، فقد بدأت شركة المياه تمد مواسيرها إلى أحياء القاهرة، وحلت الحنفية العمومية مكان السبيل، ثم دخلت مياه الشركة إلى معظم البيوت، وأصبحت الأسبلة مجرد أبنية أثرية، تتوارى الآن فى معظمها تحت طبقات من النسيان، يعانى بعضها الإهمال ويتعرض أجملها للسرقة دون رادع، ويغطى واجهات البعض الآخر بضاعات الباعة الجائلين، ونرجو أن تشمل هذه الأسبلة عناية المجلس الأعلى للآثار، لن يحتاج الأمر إلا لحملة تنظيف، وإخلاء واجهات الأسبلة من شاغليها، عندئذ تسترد القاهرة أكثر من ستين عملاً فنياً معمارياً فريداً، لن تعرف الأزمنة المقبلة مثلها. نفارق سبيل رقية دودو المنهوب ونواصل فى اتجاه مسجد الطنبغا الماردانى ساقى السلطان.