تمر هذه الأيام ذكرى ميلاد الشاعر الغنائي عبد الوهاب محمد، والذي أشتهر بتقديم عشرات الأغنيات -خاصة- العاطفية للعديد من الفنانين على مدار مسيرته الفنية، وقد تكون أغنية (أنا وأنت ظلمنا الحب) التي شدت بها السيدة أم كلثوم للمرة الأولى عام 1962 بلحن للموسيقار بليغ حمدي، واحدة من أشهر الأغنيات العاطفية التي تعتمد على توصيف بنية الألم في مرحلة نضج التجربة الغنائية العربية.. هنا حيث بلغ الشعر الغنائي ذروته في التحام الكلمة بالوجدان، واللحن بالمعنى؛ لذا فإن النص في بنيته الشعرية، استطاع الخروج من بوتقة الخطاب الوجداني الأحادي إلى منظومة حوارية مكثفة تشتغل على الوعي المزدوج، أي بين وعي الذات الجريحة، ووعي الآخر الشريك في الفقد أو الخسارة..
هذا الوعي الذي يظهر في بنية حوارية تكرارية مفتوحة (أنا وأنت) لتتجاوز الوظيفة الإنشائية للخطاب إلى وظيفة أخرى دلالية؛ فالتكرار حين يُعيد الجملة فإنه يُضاعف مأزقها، مؤكّدًا عبر التيمة الموسيقية التي تتكرر هي الأخرى، تلك الثنائية المتناظرة بين الاتحاد والانفصال، عبر مراحل ثلاث تبدأ بالشعور بالألم ثم الافتراق، وأخيرًا.. استقلال الندم. ومن منظور شعرية الخطاب، فإن القصيدة تنهض على حوارية مشحونة؛ لتتحرك المفردات في تصاعد مستمر بين نظامين من القيم، أولهما قيم الحب المأمول وثانيهما قيم الواقع المنهار، وعليه ف"أنا وأنت" ليست صيغة مخاطبة بين حبيبين، بقدر ما هي ساحة للتنازع بين "الأنا" التي تبحث عن معنى العاطفة و"أنت" التي تمثل ظلها المفقود.
ومن الملاحظ أن الحوار بينهما لا يتحقق بالتواصل، وإنما يتم ذلك عبر إنهياره على المستوى الواقعي، لتحل تلك (Polyphony) الداخلية وتتجلى في الانتقالات المتواترة بين الاعتراف والاتهام، بين الرثاء الذاتي واللوم المتبادل؛ لنلمس أن كل ضمير من ضميريّ الخطاب يحمل الآخر في داخله، ويعيد إنتاجه، فتتحول بذلك الجملة الغنائية إلى الإطار الحواري المفتوح على صراع داخلي للذات العاشقة.
هذا التناوب الحواري بين (أنا - أنت) ينسحب على البنية الإيقاعية التي استخدمها عبد الوهاب محمد بذكاء شديد؛ فالإيقاع ليس موسيقيًا فقط وإنما دلاليا في الوقت ذاته؛ إذ يتوالى التقطيع الداخلي للجمل ليحاكي التمزق النفسي للحبيبين بينما تزداد حدة التصدع في بيت: "ما حدش منا كان عايز يكون أرحم من التاني / ولا يضحي عن التاني". وفيه يتحول الإيقاع إلى مترجم لمفهوم اليأس، وينقلب الوزن اللفظي إلى إيقاع متكسِر ينم عن الخذلان، ويظل بليغ حمدي، ممسكًا في هذا البناء اللغوي بلحنٍ يراوح بين القرار والجواب فيه، على نحوٍ يعمّق تلك الثنائية بين التوتر والانفراج، لتنجح الموسيقى في إكمال التخبط الداخلي الذي بدأته الكلمة.
كما يقوم النص على شبكة من العلامات، تتناوب دلالات الحب فيها والغياب والندم، وكل مفردة تحيل المستمع إلى منظومة رمزية تتجاوز المعنى السطحي للخطاب العاطفي، فعبارات مثل: (ضاع الحب ضاع)، (ما بين عند قلب وقلب)، و(لا أنا بنساه ولا بتنساه).. تعمل كرموز تُنتج وعيًا مأزومًا يعيد الكلمة الواحدة لمرتين، كي يقنع بنتيجة حتمية مؤداها إنتهاء العلاقة، فيتحول الضياع في النص إلى تفكك للغة التواصل نفسها؛ تلك اللغة التي كانت وسيلة للحب، تحولت إلى دلالة على الفشل.
هنا يتحقق تحوّل العلامة من الوسيطٍ التواصلي إلى كيان بلاغي مستقل، يحمل في ذاته انزياح المعنى وتعدده، عبر اقتصاد لغوي محسوب؛ فالنص يخلو من الزخرف البلاغي التقليدي، ويعتمد بدلًا منه على البنية التكرارية المتصاعدة، لتوليد الانفعال.. فالتكرار هنا للمفردات يعد آلية سردية تولّد الدلالة، حيث يصبح الضياع لازمة بنيوية تعيد تشكيل الوعي في كل مرة، وتؤكد على جلال وعظم الخسارة، وتغدو الكلمة ذاتها علامة على الهدم الذي لا يُرمَّم، في هذا المستوى، تنفصل الدالّات عن مدلولاتها الأولى؛ لتنتج لنا معنى جديدًا عبر التكرار الانزياحي، الذي يشبه حركة الذاكرة في النصوص الاعترافية. أما حالة التوتر بين العناد والرحمة، النسيان والذكرى، فإنها تؤسس قطبية دلالية تمثل جوهر الخطاب ذاته؛ ف العناد هنا ليس مجرد نقيصة سلوكية، وإنما يعد رمزًا للأنانية الوجودية التي تدمر الحب، بينما الرحمة رمز الفعل الغائب، الذي يظلّ يطارد الذاكرة في لحظات من الحنين، هذا التناقض بين العناد والحنين، يولّد حركية النص ويمنحه توتره الدلالي المستمر. في بيت القصيد: (أنا وأنت نسينا حتى نتعاتب ونتصارح، وعز عليك تسيب العند وتسامح، وعز عليا أكون البادي واتصالح) هنا يبلغ النص ذروته الدرامية والنفسية؛ إذ تتكثف بنية الصراع بين العاطفة وعزة النفس، بين الندم والتمسك بالذات، الضميران «أنا» و«أنت» لا يمثلان مجرد طرفين في علاقة حب، بل صوتين متوازيين داخل الذات الواحدة، يحمل كل منهما صدى الآخر في حوار داخلي متنازع؛ فتتحول الجملة هنا إلى ساحة جدال داخلي لا يهدف إلى التواصلٍ الفعلي، وإنما إلى تعرية وجودية للذات في مرآة الآخر.
كذا فإن النفي في «نسينا حتى» لا يعني غياب الفعل بقدر ما هو الانهيار الواقعي لآلية الحوار نفسها، كأنهما (أنا - أنت) فقدا القدرة على استخدام اللغة كوسيلة للنجاة، فتحولت بعنادهما إلى علامة على العجز، وصار النسيان هو اللغة البديلة.
على طول الخط البنائي للقصيدة نلمس تماهي البنية الإيقاعية مع هذا الانكسار؛ فالتكرار الصوتي في «عز عليك» و«عز عليا» يشي بتردّدٍ عاطفي، بينما التوازي التركيبي بين الجملتين يصنع تماثلًا صوتيًا يتفق ومقابلة تتضح في كم الألم على نفسيهما.. هنا يتضاعف التوازي بين الفعلين «تسيب» و«أكون» ليعكس تبادلًا في الأدوار، وكأن كل طرف ينتظر الآخر ليبدأ، فيبقى الفعل معلقًا على حافة التمني، مع اتساع قوس التلقي الذي يفرد مساحات من التأويل تتنوع في قراءة أي الطرفين أخطأ، ليصلا إلى ذلك المفترق!
يظل النص في جوهره إعادة صياغة لمأساةٍ إنسانية متكررة؛ أن يفقد الحب لغته تحت ضغط الكبرياء، ومع ذلك، يتسرّب الحنين من بين حروف الجملة، فالإقرار بالعجز عن المصارحة هو في ذاته اعترافٌ متأخر بالرغبة في المصالحة، لتتشكل شعرية البيت من هذا التوتر بين البوح والكتمان، بين الرغبة والفعل المؤجل.. حتى يصبح الخطاب ذاته مرثية للغة الحب التي خفتت، وفي عمق هذا الصمت، تتجلى قوة القصيدة الغنائية العاطفية، مواجهة النفس بصداها، عبر خطاب الآخر. ليظل السؤال: هل يذوب الكبرياء حين يشتعل الحنين؟ أم يظلّ العناد جدارًا يفصل بين قلبين يعرف كلٌّ منهما أنه لم ينسَ، لكنه فقط عز عليه أن يعرف طريق العودة. ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار ال 24 ساعة ل أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري ل أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية. تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هنا