نقابة الأطباء تكرم رموز المهنة والنقباء السابقين في احتفالية يوم الطبيب    استخراج 1023 شهادة بيانات للتصالحات بمراكز الشرقية    مواصفات وأسعار سيات إبيزا 2024 بعد انخفاضها 100 ألف جنيه    بعثة البنك الدولي تزور محطات رصد جودة الهواء ومركز الحد من المخاطر    محافظ شمال سيناء يستقبل نائبة رئيس الوزراء ووزيرة خارجية سلوفينيا    وزير التموين: مصر قدمت 80 ٪ من إجمالي الدعم المقدم لقطاع غزة    آخرها هجوم على الاونروا بالقدس.. حرب الاحتلال على منظمات الإغاثة بفلسطين    الدوري الإنجليزي، مانشستر سيتي يتقدم على فولهام بالشوط الأول    أخبار الأهلي : طلبات مفاجئه للشيبي للتنازل عن قضية الشحات    تفاصيل وفاة معلم اللغة العربية بمدرسة التربية الفكرية في الأقصر    مغني المهرجانات «عنبة» ينجو من الموت في حادث سير    وزير الصحة باحتفالية يوم الطبيب: الأطباء في عين وقلب الرئيس السيسي    تشغيل قسم الأطفال بمركز الأورام الجديد في كفر الشيخ (صور)    رئيس الوزراء: إطلاق أول خط لإنتاج السيارات في مصر العام المقبل    «الأرصاد» تكشف حقيقة وصول عاصفة بورسعيد الرملية إلى سماء القاهرة    افتتاح الملتقى الهندسي للأعمال والوظائف بجامعة الإسكندرية    نتائج منافسات الرجال في اليوم الثاني من بطولة العالم للإسكواش 2024    الدوماني يعلن تشكيل المنصورة أمام سبورتنج    عقوبة استخدام الموبايل.. تفاصيل استعدادات جامعة عين شمس لامتحانات الفصل الدراسي الثاني    البابا تواضروس يدشن كنيسة "العذراء" بالرحاب    محافظ أسوان: توريد 137 ألف طن قمح من النسبة المستهدفة بمعدل 37.5%    الإمارات تهاجم نتنياهو: لا يتمتع بأي صفة شرعية ولن نشارك بمخطط للمحتل في غزة    بعد ثبوت هلال ذي القعدة.. موعد بداية أطول إجازة للموظفين بمناسبة عيد الأضحى    ضبط المتهمة بالنصب والاحتيال على المواطنين في سوهاج    رئيس حزب الاتحاد: مصر صمام الأمان للقضية الفلسطينية    تسلل شخص لمتحف الشمع في لندن ووضع مجسم طفل على جاستن بيبر (صور)    اللجنة العليا لمهرجان المسرح المصري تجتمع لمناقشة تفاصيل الدورة ال17    باسم سمرة يكشف سر إيفيهات «يلا بينا» و«باي من غير سلام» في «العتاولة»    اجتماع لغرفة الصناعات الهندسية يكشف توافر 35% من مستلزمات صناعات الكراكات بمصر    التنمية المحلية: استرداد 2.3 مليون متر مربع بعد إزالة 10.8 ألف مبنى مخالف خلال المراحل الثلاثة من الموجة ال22    استشاري تغذية علاجية يوضح علاقة التوتر بالوزن (فيديو)    إحالة العاملين بمركز طب الأسرة بقرية الروافع بسوهاج إلى التحقيق    المفتي يحسم الجدل بشأن حكم إيداع الأموال في البنوك    «صفاقة لا حدود لها».. يوسف زيدان عن أنباء غلق مؤسسة تكوين: لا تنوي الدخول في مهاترات    وزيرة التضامن تشهد عرض المدرسة العربية للسينما والتليفزيون فيلم «نور عيني»    تشكيل مانشستر سيتي – تغيير وحيد في مواجهة فولام    التنمية المحلية: تنفيذ 5 دورات تدريبية بمركز سقارة لرفع كفاءة 159 من العاملين بالمحليات    وزيرة التضامن: 171 مشرفًا لحج الجمعيات.. «استخدام التكنولوجيا والرقمنة»    جدول ترتيب الدوري الإنجليزي قبل مباريات اليوم.. فرصة مانشستر سيتي الذهبية للصدارة    وزير الأوقاف: هدفنا بناء جيل جديد من الأئمة المثقفين أكثر وعيًا بقضايا العصر    معسكر مغلق لمنتخب الشاطئية استعدادًا لكأس الأمم الأفريقية    تداول أسئلة امتحان الكيمياء للصف الأول الثانوي الخاصة ب3 إدارات في محافظة الدقهلية    بعد وصفه ل«الموظفين» ب«لعنة مصر».. كيف رد مستخدمي «السوشيال ميديا» على عمرو أديب؟    بسبب «البدايات».. بسمة بوسيل ترند «جوجل» بعد مفاجأة تامر حسني .. ما القصة؟    رئيس هيئة الرعاية الصحية يتفقد المستشفيات والوحدات الصحية بالأقصر    جهاز المنصورة الجديدة: بيع 7 محال تجارية بجلسة مزاد علني    توريد 164 ألفا و870 طن قمح بكفر الشيخ حتى الآن    شروط وأحكام حج الغير وفقًا لدار الإفتاء المصرية    مصرع مهندس في حادث تصادم مروع على كورنيش النيل ببني سويف    أحمد حسن دروجبا: "لا يمكن أن تكون أسطورة من مباراة أو اثنين.. وهذا رأيي في شيكابالا"    حادثة عصام صاصا على الدائري: تفاصيل الحادث والتطورات القانونية وظهوره الأخير في حفل بدبي    مجلس الأمن يدعو إلى إجراء تحقيق مستقل وفوري في المقابر الجماعية المكتشفة بغزة    كرم جبر: أمريكا دولة متخبطة ولم تذرف دمعة واحدة للمذابح التي يقوم بها نتنياهو    طائرات الاحتلال الإسرائيلي تقصف منزلًا في شارع القصاصيب بجباليا شمال قطاع غزة    عمرو دياب يحيى حفلا غنائيا فى بيروت 15 يونيو    هل يجوز للمرأة وضع المكياج عند خروجها من المنزل؟ أمين الفتوى بجيب    رسائل تهنئة عيد الأضحى مكتوبة 2024 للحبيب والصديق والمدير    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موجات من الفوبيا:مواجهة
العالم بالبوح!
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 08 - 2018

أول ما يثير الانتباه في ديوان "موجات من الفوبيا" للشاعر كمال أبو النور- والصادر مؤخرا عن الهيئة العامة للكتاب- هو مفهوم العودة إلى الكتابة وإمكانية تجاوز السياق الزمنى من خلال القفز من الخلف، حيث تبدو الفجوة الزمنية الكبيرة نسبيا بين نصوصه المنشورة فى دوريات ومجلات مصرية وعربية منذ أكثر من ربع قرن وبين ديوانه الأول وبينهما صمت وانعزال عن الشعر والكتابة، وهى حالة تستحق الوقوف أمامها حيث تأطير فكرة العودة وعلاقتها بالنص وتأثيراتها كإشكالية، وإن كان هناك العديد من الكتاب والشعراء الذين قدموا أعمالهم فى سن متأخرة نسبيا لأسباب متعددة بعضها شخصي، والكثير منها لأسباب خارجة عن الذات، الأمر الذى يقودنا للتساؤل حول المجايلة وقضاياها المطروحة على بساط البحث بشكل متكرر والسمات المميزة لجيل ما فى خطابه الشعرى سواء فى التشكيلات والأنساق الجمالية أو الرؤى المعرفية وطبيعة الصراع بل ووظيفة الشاعر ودوره الذى يتبدل عبر فكرة تطور الفنون وهى واحدة من الإشكاليات التى بحوزتنا إجابات متعددة بصددها ولا نملك إجابة يمكن الوثوق بها، وقد تدفع بنا نحو حقول بحثية عديدة وتنظيرات بطبيعتها خارج النص، وإن استمرت تدور حوله باعتبار المنهج التاريخى فى قراءة النص من بين المناهج النقدية الرئيسة حتى وإن تضاربت الآراء بصدده واختلفت الرؤي.

المقدمة السابقة ضرورية لقراءة الديوان الذى جاء فى 24 نصاً تقدم من خلالها الذات الشعرية رؤيتها للعالم بداية من العتبات النصية كمكون نصى جوهرى له خصائصه الشكلية ووظائفه الدلالية للانتقال من النص المغلق إلى مفهوم النص الشامل بالنظر إلى خطاب العتبات من منظور جمالى يجاوز اعتبار العتبات وسيلة تواصلية على نحو ما ارتآه جيرار جينيت حول اندماج العتبات والنصوص المحيطة بفضاء النص وانفصالها كتوجه نحو النص الشامل بداية من العتبة الأولى العنوان "موجات من الفوبيا" وارتباطه بالنص ليس باعتباره مفتاحاً للقراءة، أو معبراً للدخول إلى الديوان بقدر ما نهدف للبحث عن ارتباطه بجسد النص، وعلاقاته بالعناوين الداخلية ووظيفته الدلالية من خلال كلمتى موجات وهى جمع موج وكملفوظ تعنى ماج الماء، كما تعنى الاهتزازات التى تحدث للأجساد المختلفة والذبذبات، وماج القوم إذا حدث اختلاط وتداخل أى أن موجات تقودنا للاضطراب والقلق، وتأتى كلمة الفوبيا وهى كلمة إغريقية وتعنى الرهاب وهو الخوف المرضى الذى لا أسباب له، والجملة الاسمية المكونة من مبتدأ وشبه جملة تحملنا نحو تأويلات متعددة قد تنحو باتجاه الذات الفردية أو الجمعية أو تصبو إلى الآخر الذى يجسد الخوف من الغائب والمجهول والأسطورى أو الخوف على الآخر ومنه، وقد تكون الموجات قادمة من الخلف من التاريخ والذكريات الشخصية أو من غرائبية العالم والأشباح والمسوخ إنها تفتح آفاقا غير محدودة للتوقع، وفى الوقت ذاته تدفعنا نحو دور الشاعر وتطوره من الفارس والنبيل الذى يحلق فى أقصى الفضاء إلى الإنسان الخائف والمترقب بعيدا عن مفهوم النبى وإن اقترب من الاستشراف ومحاولات الكشف من خلال الاستبطان الذاتى حيناً وقراءة العالم أحياناً، ووضع المتلقى كشريك فى النص، كما يدفع بنا خطاب العتبة الأولى نحو الشعر كحالة اعترافية تبدو تلقائية لا تأتى عبر القناع بصوره المتعددة كوسيلة لحمل الخطاب الاعترافى كما هو الحال فى نصوص شعراء الخمسينيات والستينيات ك"أحلام الفارس القديم" لصلاح عبد الصبور أو "الأخضر بن يوسف ومشاغله" لسعدى يوسف، والاعتراف لا ينطلق كذلك من خلال أنسنة الأشياء والتباس الذات بأحد الموجودات وهو النص الذى انتشر فى جيلى الثمانينيات والتسعينيات وأنتج نصوصاً اعترافية من خلال الأشياء كالسكاكين والبالونات والتوك توك والمانيكان وغيرها وهى نصوص تبدو مستهلكة فقدت مع التكرار طزاجتها وتجددها، والاعتراف الذى نتوقعه يرتبط فى جوهره بالصراع وتعدده، والتفاعل مع الآخر/ الآخرون باعتبار أن موجات كلفظ ( جمع) فهو متجدد ومتواصل بما يقودنا إلى حالة ديالكتيكية، والموجات بتتابعها تشكل حيزاً زمنياً وتقدم سياقات زمنية متتابعة من استحضار ما مضى وصولاً إلى زمن استباقي.

ومن العنوان إلى الإهداء إلى الأم والزوجة وكأنه يحدد العالم وأطره من خلال المرأة فى تمظهراتها المتنوعة متجاوزاً المرأة الوطن باتجاه المرأة العالم كرؤية أممية وكسلطة للأنثى أو كتشاركية معها فى الحياة وتمرد ضد التقاليد المتوارثة التى تحط منها والخطابات الفوقية التى تضعها فى درجة أدنى من الرجل، ومن الإهداء إلى العناوين الداخلية عناوين النصوص نجد علاقات متشابكة داخل جسد النص مع العتبة الأولى تحمل ملامح وسمات للخوف وارتباك الذات وهشاشتها مثل: أرواح هشة ... مخلوقات سرية... نباح متواصل ... العطب يفوح من الحديقة ...لا أجرؤ... ما ذنب الصغار ...ضلوع متهالكة تبحث عن سماء، ونهاية بنص توارى قليلا، فالوظيفة الدلالية للعتبات تبدو ظاهرة ومراوغة فى اللحظة ذاتها، وتكشف الدور الذى تؤديه العتبات داخل الخطاب جماليا ومعرفيا، كما يبدو دور المرأة الذى تجلى فى الإهداء كرمز ودلالة مركزية تتشكل فى نسيج النص مثل: عادات عائلية، ساقود مظاهرة ضد أبي، لصفية قمر واحد، أمي. إن المرأة تتشكل داخل النص بصور متعددة من الأم الإلهة إلى الغواية والفتنة ومن الجنس المقدس إلى البراءة الكاملة، ومن هنا تبدو العتبات النصية مساحة من جسد النص، وتتجاوز فكرة مفاتيح القراءة والطريق إلى النص.
ويحمل الخطاب الشعرى سمات لها خصوصيتها الجمالية والمعرفية، من خلال العناصر التكوينية للقصيدة والأداءات الشعرية التى قدمت من خلالها بدءا من اللغة التى تمثل النظام الضام لمجموعة القواعد والقوانين المحددة التى تهيئ حدوث الممارسة الفعلية لعملية القول وتتيح الإدراك، وهذا يجعلنا نعير الاهتمام إلى الطبيعة الإشارية وإلى التنظيم الذاتى داخل الجمل والنصوص، وهى خواص قائمة على العلاقات الداخلية بين العناصر (1) وفق التباديل والتوافيق التى هى لعبة الكاتب / الشاعر حيث النص يمثل لعبة متواصلة من التوافيق والتباديل، يتم من خلالها كسر أفق التوقع وإثارة الدهشة عبر وظائف اللغة الأدائية والدلالية والتأثيرية، وتطور العلاقة بين اللغة والتوصيل، من خلال الملفوظات وما تحمله من موروث ودلالات، وهو ما ذهب إليه الشراح العرب قبل عبد القاهر الذى رفض بشدة أن يكون للألفاظ شأناً كبيراً فى الصياغة الأدبية، وعنده أن الألفاظ تابعة للمعانى ( 2) وبالتأكيد فقد تجاوز الأمر العلاقة بين اللفظ والمعنى لدى الأسلوبيين وظهرت نظريات عديدة حول الأسلوب والأسلوبية واللسانيات كالأسلوبية البنائية والأسلوبية التعبيرية، وهذا الاستعراض أجده ضروريا حيث إعادة توظيف ملفوظات تتكرر داخل النص، تنتمى إلى الرومانتيكية والشعر الوصفى مثل: العصافير، الزهرة،الفراشة، الرحيق، اللحن، الشجر ومكوناته، وهو معجم يدفع بنا نحو سياقات جمالية شديدة الشفافية تنتمى إلى الطبيعة والتعبير عنها وترتبط بخطاب شعرى رومانتيكي، ولكنه يعيد توظيفها للتأكيد على قبح العالم ومسوخه وكتضاد لواقع مؤلم شديد القسوة فيقول فى قصيدة ما ذنب الصغار:
"لأننا أتينا بالشيطان ليجلب لنا الجنة
عذرا لكل وردة لجأت إلينا
فى رمقها الأخير
ولم ننقذ روحها العالقة" ص 68
وفى قصيدة لك البوح ولى الضوء:
"أنا غصن من شجرة
جذورها منقوعة فى الدماء
هذه البقعة من العالم
لا حق فيها للعصافير
أن تغنى كما تشأ" ص46
إن اللغة هنا تتجاوز وظيفتها التواصلية من خلال خطاب شعرى يقدم كم من الإشارات والرمز، والمعجم الجمالى الذى ارتبط بالطبيعة، أعيد توظيفه، فالوردة التى تلفظ أنفاسها ليست وردة بالفعل إنها تحمل دلالات متعددة للجمال والبراءة، تم توظيف هذه الدلالات فى مواجهة السلطة/ السلطات التى تعصف بكل شيء، والأمر ذاته مع الشجرة التى تكون الذات غصنا منها، ولكنه منقوع فى الدماء، والعصافير لا حق لها فى الغناء، لقد صمتت الطبيعة الجميلة أمام قسوة الواقع وقبحه، وفقد ماهو جميل وبريئ قدرته على الحياة، بل يتجاوز هذه الرؤية نحو أسطرة هذا العالم باعتباره الغائب والقارة المفقودة والبطل الذى لا يأتى وتحوله إلى حلم هو فى جوهره كابوسي، حتى وهو يحيا مع الغزلان وأشجار الفل فى تصور آخر لجنة للفردوس المفقود فى قصيدة حلم ص 74 فاللغة نظام دلالة بامتياز، والنص بنية لغوية مستقلة لها عالمها الخاص وتكوينها المتميز، بوصفه لغة منتظمة فى نسق من التراكيب (3) ومن خلال هذه الأنساق والتراكيب يعيد اكتشاف العالم والتمرد عليه ومواجهته، وعليه أن يجمع التاريخ فى لحظته الآنية أن يضع ذاته مركزا للعالم ويبوح باعترافات متتالية، بعيدا عن كون النص فعلاً تطهيرياً كما رأى الأغريق فى التطهير عند أرسطو حيث الإثارة الفنية تقوم على حشد المشاعر وتوجيهها بغاية تطهير النفس مما يشوبها من آثام ونقائص، وهذه الغائية تختلف عما ذهب إليه جوتة فى مقولته أن الشعر اعترافه الكبير، وكأنه يتخلص من حمولات الذات وآلامها باعترافاته فى قصائده، وتلك غائية أخرى متابينة ومختلفة، عما هدف إليه أرسطو من خلال دور المأساة التراجيدية، فالاعتراف هنا فى موجات من الفوبيا يشكل موقفا وجوديا آخر، ويمثل فعل مقاومة ضد مسوخ العالم وقبحه، وسلطاته الاجتماعية والسياسية المتعددة والمتراكمة، وتمسك بالحياة وكشف للتاريخ الذاتى كتأكيد للوجود فالنوستالجيا أو الإيابة، وتعنى الرجوع إلى البيت أى الحنين إلى الماضي، وهى فى أساسها تعبير عن حالة من الرومانتيكية تم توظيفها فى الشعرية الحديثة ومنحها أدوارا تجاوز الرؤية الرومانتيكية الضيقة، حتى وإن تقاطعت أوتماست معها، إلا أنها لا تدور فى فلكها، ولا تتبنى موقفها من العالم، والذاكرة ليست مجرد وعاء للحفظ، أو سجل تصويرى يحفظ المواد دون أن يترك أثرا فيها، وإنما هى فعل تشكيلي، وقدرة خلاقة، وإنشاء متصل . لا تنجذب إلا إلى ما ترى فيه دلالة خاصة تلمحها، ولا تستبقى لا ما ينطوى على معنى تدركه فى تداعياتها، ولا تتسم بالحياد إزاء ما تنطوى عليه ( 4 ) وهو ما يقودنا للحديث حول دور الذاكرة فى تكوين شبكة علاقات متخيلة ودورها فى المخيلة الاستدراكية والابتكارية .
فيقول فى قصيدة مخلوقات سرية:
"فى زاوية منسية
أجلس مع معشوقاتى
الدجاجات التى تحتفظ
بأنفاس أمي
تزورنى كلما
أشتاق لزفيرها" ص 16
أو فى قصيدة موجات متتابعة من الفوبيا
"سأعود مرة أخرى
إلى الفرقة الموسيقية
نعزف نفس اللحن النشاز
نفس الكلمات الكلاسيكية"ص33
أو " رحل أبى
بكل وداعته
وترك بجواري
حيوانات تستعذب
سلخ جسدها" ص 19
إن الحنين إلى الأم وذكرى الأب، وإلى عالم جمالى متخيل الكثير من موجوداته تخص القرية، الحاضرة كأسطورة غير متحققة فى الواقع، وهى ليست الثنائية الشهيرة بين القرية والمدينة تلك الرؤية القاصرة والساذجة التى تناولتها بعض النصوص فى الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، والتى كانت تحدد أطر عالمين متقابلين على غرار الأبيض والأسود، والصدام بين عالمين متناقضين ووحشية المدينة فى تفاعلها مع القروي، فالعالم الجمالى المتخيل يعانى هو الآخر، والتقاليد يتمرد ضدها فى قصيدة عادات عائلية يقول
" اتركى كل أعضائك
تتصرف كطفل
له مطلق الحرية فى العبث
له مطلق الحرية
أن ينام باستغراق
داخل ميسم زهرة" ص14
أو فى قصيدة مسافة لا نهائية
" المسافة بين شجرتين
كأى مسافة
تصنع الأجنة
على أبواب الملاجئ" ص 40

إن العالم يعانى وحالة الاغتراب والقلق، الارتباك المتواصل أمام وحشية العالم لا تختلف وليس ثمة عالمان متقابلان، بل عوالم متداخلة بين الواقع بجغرافيته الممتدة والذاكرة والأحلام والتمرد، أنه يصنع عوالم جمالية متخيلة تتجاوز القرية التى لا تقل قسوتها عن المدينة، ليس من ثمة صدام حاد أو معركة بين قرية ومدينة كفارسين يتبارزان فى حرب من القرون الوسطى، والعالم المتخيل هو لعبة اعترافية يقدم من خلالها أحلامه فى عالم جمالى وبرئ، وهو يواجه المسوخ والوحوش الجديدة الأكثر قسوة من ميدوس الوحش الأسطورى فى الميثولوجيا الإغريقية، وهذا العالم يقدم حالة دونكيخوتية حيث الحلم الذى لا يتحقق والحياة داخله، ومعه، إنه لعبة عبثية تحملها الذات الشاعرة أينما حلت، كمن يحمل صليبه أو كصخرة سيزيف، فالشاعر لم يعد ذلك الحالم حتى وإن راوغنا بتلك الرؤى الجمالية، بل الإنسان بخطاياه وتصوراته وصراعاته ونزواته كذلك، وهو الدور الذى يبدو فى واجهة المشهد الشعرى الآنى حيث تقدم قصيدة النثر صورا متعددة للذات وصراعاتها، ومجانية العالم خارج المقولات الشهيرة للسيدة سوزان برنار حول قصيدة النثر، والتى تجاوزت التعبيرية بأساليبها إلى خاصية التعدد الجوهرية فى مادة الشعر ورؤيته، واتساع التنويعات الأسلوبية حيث يجتمع الأسلوب الحسى والرؤيوى والدرامى من خلال العبور من منطقة تعبيرية إلى أخرى، بل وجمع هذه المناطق التعبيرية معا بديناميكية، وهو ما تحقق فى موجات من الفوبيا حيث التعبير الحسى وبخاصة عن المرأة- يجاور الرؤيوى والدرامى بل والتجريد الكونى والاستشرافى عبر خطاب شعرى تبوح الذات داخله بتناقضاتها وأحلامها وهزائمها وإحباطاتها.
وسيكون من غير الملائم الحديث المتكرر عن آليات النص ووظيفة السرد واستخدام المونولوج الداخلى والسرد الحكائى واستبطان الذات، وتوظيف المشهدية ودورها داخل السياق، فقد غدت هذه الآليات والأداءات سمة من سمات قصيدة النثر - المصرية على الأخص -، بما يجعل الحديث عنها - برغم أهميته - حالة تكرارية فى تناول وتحليل أى نص شعرى فى اللحظة الآنية، باعتبار هذه الآليات وتوظيفها تشكل أنموذجا للكتابة، حتى وإن تمايز النص وحمل خصوصيته التى علينا أن نقترب منها وأن نسعى إليها باعتبار أن النص الشعرى قيمة جمالية ومعرفية تأتى عبر معمار لغوى يسكنه جسد النص، ويحمل خصوصية تدفع إلى التأثير والدهشة.
ولا يمكن تناول ومطالعة "موجات من الفوبيا" دون الوقوف أمام دلالة المرأة التى بدأت منذ الإهداء والتى تظهر عبر مفردات عديدة ليس فى النهدين والحليب والتفاح والجسد وصفية، بل فى الدجاجات ورائحة المطبخ كذلك، إن المرأة فى تحولات وتمظهرات عديدة داخل النص تصل العلاقة فى ذروتها أن تكون الذات حبيسة فى نهدى امرأة، فبين الحنين إلى الأم وغواية الأنثى دلالات عديدة للمرأة،يمكن القول بقليل من الإجحاف فى التأويل أن بعضها المرأة الوطن، وتفسير فرويد حول الطفولة والنهدين قد يكون ملائما فى بعض الأحايين، إلا أنه يتجاوز ذلك ويقدم صوراً شاسعة للمرأة من الإلهة الأم حيث القداسة والحنين إلى الماضى إلى المراة الفتنة، والمرأة الوطن، والمرأة الحياة، فالتمسك بالمرأة هو تمسك بالحياة أن تقضم التفاحة يعنى أن تستبدل الجنة بالأنثى، التى تغدو هى الفردوس وأن تمتزج بالخطيئة أيضا، أن تغدو بشرا وتكتسب المعرفة والقدرة على الاختيار .

وعبر نصوص الديوان نرى ملمحاً واضحاً فى التمرد ضد السلطات والسعى إلى الثورة والتغيير والبحث عن الحرية بما يتوافق واللحظة الآنية بعد يناير 2011، وقد أفصح فى قصيدة نباح متواصل عن حالة رفض للواقع والتمرد حتى على القصيدة، فيقول
" ماذا تفعل القصائد بنباحها المتواصل
على صفحات الفيسبوك
ونحن لا نملك غير الردح والولولة
ماذا تفعل القصائد
وصرخات الشهداء تخرج
من نوافذ مجلس الشعب
تستغيث بنا لننقل رفاتها
إلى رؤوس أولادنا الطازجة"ص25
إن المحاكاة والتخييل هما جوهر الشعر، وهو التعريف الذى قدمه القرطاجني، ومهما حاولنا أن نجد تعريفا بديلا سنظل فى دائرة المحاكاة بمستوياتها والتخييل بأنواعه وتمايزاته، والنص الشعرى كحالة معرفية وجمالية ليس للمتعة والإدهاش وحدهما بحال، بل من أجل وعى جمالى ومعرفى وتأثيرات يتفاعل معها المتلقي، الذى هو شريك فى النص عبر تأويله، وهو ما سعى ديوان موجات من الفوبيا لتحقيقه فى إضافة لقصيدة النثر التى تجاوزت الهامش إلى المتن، وصار الحديث عن وجودها ضربا من العبث، وفى الديوان يقدم اقتراحاً شعرياً وجمالياً يضاف إلى رصيد المشهد الشعرى عبر خصوصية فى التناول والتجربة الشعرية والشعورية.
هوامش
د/ نهلة الفيصل الأحمد التفاعل النصى كتابات نقدية الهيئة العامة لقصور الثقافة - 2010 ص 40
د/ أحمد درويش- دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتراث مكتبة الزهراء ص27
بركات د. وائل مفهومات فى بنية النص دار معد دمشق- ص3 المقدمة
د. جابر عصفور- تحولات شعرية الهيئة العامة المصرية للكتاب ص 11


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.