يمثل صلاح فائق حالة استثنائية داخل المشهد الشعري الآني، إنه المتجدد باستمرار، من العسير أن تلجأ إلي التصنيفات التقليدية، و إلقاء المسميات المعتادة والمجحفة - كالقول إنه سوريالي أو تفكيكي، مستقبلي أو عدمي، ففي قصائده يقدم آليات ومستويات متعددة، والأداء الشعري ينطلق من مخيلة تبدو أسطورية، حيث يتجاور العجائبي والأسطوري مع المتاح واليومي، و الذاتي يلتحم بالتاريخي والمعرفي وتنطلق الصراعات الديالتيكية بتلقائية شديدة، من خلال سرد شعري يلجأ حينًا إلي الحكائي، وتارة إلي المونولوج الداخلي، ينطلق من الشفاهي فوق حيواناته - التي لاتشبه كائنات هنري ميشو -، ويواجه العالم بمحبة وحميمية بذواته المتعددة، إنه لايشاهد العالم مثل ريتسوس الرائي البارع بل يتفاعل معه في صراعات متعددة بحثا عن تحقق وجوده الإنساني في لحظته الآنية، ومواجهة وحشية العالم ومسوخه، يصنع عوالم موازية للواقع و متصلة به... وعبر رحلة شعرية و إنسانية بداية من كركوك حيث الجماعة الأكثر تأثيرا في المشهد الإبداعي العراقي والعربي قدم تجربة شعرية خاصة أنتج خلالها ما يربو علي العشرين ديوانًا من رهائن إلي مقاطع يومية عبر أعمال عديدة مثل رباعياتي.. رباعياتي الثانية.. دببة في مأتم وغيرها.. ومن العراق إلي جزيرة في الفلبين أمام محيط هادر بعد أن ترك لندن مدينة الضباب والسيرة الذاتية لصلاح فائق برغم أهميتها وتأثيراتها علي منتجه الشعري، ستدفع بنا إلي طرق بعيدة عن النص وجوهره ومايحمله من مفارقات عجائبية مدهشة، وتشكيلات جمالية متعددة كأنه يكتب بلغة لانعرفها فالصور المتتابعة و المنطلقة والهادرة في بساطة وتلقائية أبرز ما في نصوصه كأنه يعيدنا للمقولة الأقدم لأرسطوطاليس ( الشعر هو القول المخيل ) برغم صعوبة أن نختصر مفهوم الشعر في تعريف أو بنية أو قواعد، إذ من التعسف والهوس ذ أيضا ذ أن نتوقف أمام تعريف ما، وخلال قصائده النثرية التي تجاوز مقولات سوزان برنار ومدرسة شعر وقصيدة التفاصيل اليومية وغيرها مما أنتجته الذهنيات الأكاديمية و النقدية ثمة موسيقي تسبح في فضاءات قصائده تنطلق بتلقائية وبراءة وحميمية فهو شاعر الأسئلة الأولي التي نمتلك إجابات متعددة ومتوارثة لايمكن اليقين بصحتها، إنها الأسئلة التي لم تغتل الإجابات خطواتها في عقولنا ولم تُحذف علامات استفهامها بعد... وهذه المقدمة ضرورية قبيل تقديم قراءة عن ديوانه " مقاطع يومية والصادر عن جماعة أنا / الآخر بالتعاون مع مؤسسة أروقة للدراسات والنشر والذي تضمن 72 قصيدة تحفل بالعجائبي والغرائبي وتنطلق من منحي إنساني شديد الحميمية يمتزج داخلها السوريالي بالفانتازيا واليومي بالأسطوري والسرد الحكائي بالذاتي والمعاش حيث شعرية البوح والاعتراف، ويكشف الديوان عن ثقافة موسوعية ينطلق من خلالها ليصنع عوالم جديدة موازية للواقع ومتقاطعة معه في آن بإنسانية شجية يتشبث بهويته ويحمل أساطير العراق، ويتفاعل مع الثقافات بتنوعها ليصنع أسطورته الخاصة نجد هذا في عتبات النص ومفاتيحه حيث عناوين القصائد مثل ( موعدي مع لوتر يامون في كركوك..أوديب المستاء مني..نمور تتطلع إلي لوحات...جدار يقرأ قصيدة..كلكامش يتطلع إلي شعبه في التلفزيون غزالة تطارد برقًا....ضرير يغني في طائرة...) وغيرها من قصائد الديوان الذي حمل عنوانًا مخادعًا فهو لايحفل باليومي والمعاش فقط بل يتجاوز ذلك إلي آفاق آخر، ولن نتوقف أمام تفسير ما أو طريقة لقراءة النص علي نحو ما حاول نقاد مثل تمام حسن أو شكري عياد أو حتي التفكيكيين مثل دريدا فقد بحثوا جميعا عن طرائق لقراءة النص - أي نص - وسأحاول التوقف أمام بعض الظواهر و الملامح في الديوان حيث الذات الشاعرة تعيش يومها في الشعر وتحيا داخل القصائد، فهو يعي بلا افتعال أو مباشرة دوره كشاعر وآلياته مثل : " ليس في الذي أقوله أي مجازٍ تورية أو استعارة كل ما هناك أنني أتحسس حقيبتي اليدوية أعثر فيها علي حبوب ضد الصداع، والحظ منازل تنظر إلي بصمتٍ فأشعر أنها تعاني حشرجةٌ أخيرة." ص 182 وللبوح والاعتراف بما يحملان من شاعرية حميمة وإنسانية مكانتهما داخل الديوان مثل : " أنا مهاجرٌ، أعيش منذ زمن طويل في مخيم متخيل لا يعرفه أحد ، حقيقة يدركها كل هاربٍ بعد سنوات. لي مدني وقراي من كلماتٍ وذاكرة مرضي يتشاتمون في مصعد." ص 40 أو "إنني رجلٌ بلا روح ليست لي أوهام عن مدينتي. كابدت ما يكفي لأصل قمةً هنا أو هناك لم أصل. الآن هدأ منشدون في رأسي" ص9 وفي تفاعله مع الثقافات يصنع أسطورته الخاصة جدًا أنه لايهتم بالمقولات السابقة حول التناص ولا يعبأ بما يقوله النقاد مثل كريستيفا أو رولان بارت حول الهوية الخلافية للنص مثل : " كنت قبل ساعات في عيادة طبيبي فوجئت بهاملت هناك ينتحب أمام ممرضة، جلست، تصورتني في طائرة يغني فيها ضريرٌ بصوتٍ جميل. " ص 96 وهنا في هذا المقطع نجد المنشدين الشعبيين الذين نعرفهم في موالد الأولياء وكانوا يطوفون في مقاهي القاهرة القديمة، والشوارع يحملون السير و الملاحم الشعبية إلي جوار هوميروس، وأحدهم يركب الطائرة، ويغني، وهذا التصور العجائبي لحظة تخيل هاملت صديق شكسبير وضحيته ينتحب كشخص مهزوم أمام سيدة بسيطة تعمل ممرضة في عيادة أنه يضع تصوراته وكوابيسه وأحلامه في مواجهة وحشية الحضارة الحديثة التي تفقدنا إنسانيتنا ويبحث عن تحقق وجوده داخل المتخيل والأسطوري وفي سعيه لهذا يحدث الكائنات من حوله البحر.. النهر و المحيطات..الشجر والحيوانات مثل : " سأذهب لأرحب بنهرٍ يقف أمام بيتي منذ الصباح.. كان يستشيرني في الماضي في أمور تعنيه وجداوله. بعد لقائنا سيتجه إلي المحيط القريب ويختفي بين أمواجه القديمة أنا الآن أبحث في كتاب عن لؤلؤة لأهديها إليه " ص 84 أنه يمنح الكائنات حوله سمات إنسانية خالصة وحميمية دون الوقوع في فخاخ فكرة الشيئية عبر أداء شعري شفاهي، ومخيلة يتجاوز بها المتوقع والعادي ويقدم مفارقات عجائبية مدهشة يتفاعل خلالها مع العالم والذكريات والتاريخ و المعرفي بتلقائية دون السقوط في استنساخ المعرفية وإقحامها، أو تقديم نص ذهني تحت مسميات فارغة ومجانية - مثل هندسة القصيدة - كما فعل من تبنتهم المؤسسات الرسمية وصنعت السلطات بأنواعها شهرتهم ووجودهم... إننا أمام شاعر له ملامحه ومفرداته و معجمه الخاص، ولايمكن أن نتحدث عن شاعرية صلاح فائق وديوانه دون أن نتعايش مع حيواناته والتي تحيا مع أشجاره وأنهاره وسحبه داخل عالم يبدو متكاملًا، ويحمل نفيه وأسطوريته في اللحظة ذاتها مثل : "في راسي لغاتٌ أختار ما يفهمها جاموسٌ وفقراء يجمعون كبريتًا من تلال كركوك" ص 107 أو " في البدء كان التمساح لم يكن مختبأ في مستنقع بل يطير من شجرةٍ إلي شجرة بحثًا عن لقالق. كنت أراقبه أبدي إعجابي به بتصفيقٍ وهتافات أدهشتني قفزاته الرشيقة فجأة سقط وكسر ظهره وكان يبكي. " ص164 وللكوابيس وما تحمله من رؤي مكانتها داخل فضاءات النص ولعل هذا مما دفع البعض لاختصاره في السوريالية التي تشكل ملمحًا من منتجه الشعري ضمن ملامح وآليات وأجواء متعددة مثل : " كان شاعرٌ يرثي صديقه هناك فجأة خرجت يد صديقه من القبر، صفعته بقوة. لم يزعجني ما رأيت، إنما صدي تلك الصفعة لا يزول من رأسي " ص 147 وتبدو الفانتازيا أحد أدواته وجزءا من خليط سحري يقدمه في قصائده ينجح من خلاله في صياغة العالم من جديد فهو من يوزع منشورات سرية في جزيرة خاوية، وينادي باخرة من خلف شباكه، ويختفي في مخبأ طائرة، ويستقبله أمبراطور سكران، ويشتري أنياب أسد ليزرعها في حديقته. وثمة ملامح كثيرة في نص شديد الثراء مثل تعدد الذوات وصراعاتها فالأنا / الآخر..والقرين والشبح يحضرون جميعا فمن الذات الفردية إلي الأنا الجمعية ومن بحثه عن ذاته إلي تصوراته عنها ومن ذكريات تتوالي إلي أحلام وكوابيس وأشباح يجلس معها ومن رؤيته لنفسه وحكاياته عنه كأنه شخص متعدد..حاضر وغائم.. مهاجر ومقيم أنه في صراع متواصل مع ذاته وأحلامه وكوابيسه وذكرياته الحقيقية و المتخيلة مع تاريخه الشخصي، وتاريخ وأساطير العراق كل هذا داخل النص الذي يأتي من مخيلة حرة باذخة وثقافة موسوعية تمنحه آفاقًا شاسعة غير محدودة، ويؤكد من خلال قصائده أن الشعر لم يتراجع وأن المؤسسات والسلطات بتوجهاتها وألعابها تسعي لفرض خطاب احادي لايتفق وطبيعة الحياة وأن الشعر فن متجدد يملك أن يغير العالم لما هو أفضل، وأن يرسخ بهدوء وعيًا جماليًا وانسانيًا ضد بشاعة وقبح العالم المعاش.