الأفكار لا تموت أبداً، وكلما وجدت متنفساً من هواء حلقت فى السماء، أما صانعو الأفكار فنحن نستدعيهم من العالم الآخر ونستعيد أرواحهم، ونجرى معهم حوارات حية.. هنا فقط لو لم تقوموا بثورة عليهم لكان أجدادكم لعنوكم من قبورهم سحقا للسخافات والهلاوس التى كانت تحكم مصر ! حرائق مشتعلة في كل مكان.. هجوم على كل مؤسسات الدولة.. أشلاء ودماء.. كل ذلك أصابني بحالة من القرف والسخط على الفصيل الذي أراد حرق مصر.. فقررت الهروب من كل ذلك.. لعل نفسي تستريح لفترة.. نعم قررت الابتعاد عن أي حديث في السياسة.. فالبعد عنها الآن غنيمة.. قررت أن أستعيد زمن الفن الجميل.. زمن العمالقة اللي بجد.. اللي ضحوا بكل حاجة عشان حلمهم وليس من أجل كرسي أو منصب هيغور في ستين داهية ومش هتفضل غير مصر.. كعادتى في مثل هده الظروف تأخذنى قدماى إلى غرفتي لأبدأ في ممارسة هوايتى المفضلة.. قرأت ما قرأت من تعاويذ.. وتمتمت بما تمتمت من طلاسم.. وترنمت بما ترنمت من ترانيم لأمارس هوايتي المحببة في استحضار الأرواح. ومن بين دخان خفيف لبخور من النوع المغربي الذي ملأت رائحته غرفتي.. وبعد أن انتهيت من تعاويذي وطلاسمي جاءني صوته جهوريا بكل معنى الكلمة.. نبرة صوته تهز أركان الغرفة ومحتوياتها..قائلًا: ياللهول! إنه يوسف وهبي الفنان الجميل الذي ترك ثروة والده وحلمه في أن يرعى مصالح والده الإقطاعي الكبير.. ليحقق حلمه بأن يكون فنانًا..الأمر الذي كان يراه والده عارا لعائلة من أكبر عائلات الفيوم.. فوالده عبد الله بك وهبي كان يرى أن العار كل العار هو أن يكون ابنه «مشخصاتي» بعد أن افتتن بفن التمثيل..وترك يوسف الدنيا وراءه وسافر إلى إيطاليا ليسعى وراء حلمه.. قبل أن أرحب به في غرفتى وجدتنى أنظر إليه وكأننى أرى مصر في مجدها وعزها.. تنهيدة حارة خرجت من أعماقى وكأننى كنت أطرد هذا الغم والنكد النفسي الذي أعيش فيه ويعيش فيه معظم المصريين بعد أن رأوا مصر تلتهمها نيران الشبيحة وأنصار المعزول.. قلت له: أهلا يوسف بيه.. نورت غرفتى المتواضعة ! قال: من أنت.. وماذا تريد.. وما هذا المكان ؟! قلت: معلش بقى يا يوسف بيه..إن إحنا تعبنا حضرتك وجبناك لحد هنا.. قال: وهل أنت من أتيت بي من عالمي الآخر إلى هذه الدنيا مرة أخرى حتى تتألم عيناي من رؤية قاهرة المعز مدينة السحر والجمال وهي تلتهمها نيران الغدر والخيانة؟.. اذهب عليك اللعنة..إن الرب غاضب عليك لأنك عبثت بمن في القبور وأقلقت الأرواح الآمنة المطمئنة.. فتبا لك ولهوايتك في تحضير الأرواح.. إن الرب لن يسامحك و.. فقاطعته وقلت: إيه إيه حيلك.. انزل بقى من على المسرح ياعمنا.. وبلاش الكلام الكبير دا والنبى يا يوسف بيه.. حضرتك مش على المسرح دلوقتي ومفيش جمهور هنا.. قال: معلش يا ابني.. أصل الجلالة خدتني شوية.. ثم إن «المرسح» وحشني قوي، ورغم إني زعلان منك عشان قلقتني لكن من جواي مبسوط عشان كان نفسي أشوف مسرح.. فقلت: لأ بلاش حكاية إنك تشوف مسرح دي.. قال غاضبا: ليه يا ولد.. أنا عميد المسرح العربي.. وهل يمنع العميد إنه يشوف المسرح.. أقسم لك إني على استعداد أن أقدم أنا وفرقتي رمسيس عروضنا هنا مرة أخرى.. قاطعته قائلا: يا بيه إحنا مابقاش عندنا مسرح أصلا..خلاص كان موضة وبطلت.. ثم لو حضرتك عرضت مسرحيات رمسيس دي تاني في زماننا هتهلكنا من الضحك وهنسخسخ على روحنا وإحنا بنشوف حضرتك كدا بتقول يا للهول.. فقال: يا ولد أنا أقدم مسرح جاد.. هو أنت فاكرني الكسار ولا الريحاني عشان الجمهور يضحك.. فقلت: طب علىّ النعمة مسرحياتك دلوقتي يا عم يوسف بيه تضحك أكتر من الريحاني لو عرضتها.. دا أنت تنافس السبكي وتجيب إيرادات أعلى من أفلامه..لا تقول لي بقى قلب الأسد ولا كلبي دليلي.. أنت بس تطلع تقول الكلمتين اللي حضرتك بتقولهم دول في مسرحياتك والجمهور يبقي فيها زي الرز.. فقال: ومن السبكي هذا..أهي فرقة جديدة كفرقة رمسيس وفرقة عزيز بيه عيد أو الريحاني؟ فقلت: لأ يا بيه.. السبكي دا صاحب اختراع كدا اسمه اللحمة.. وهو ملك اللحمة بقى في السوق دلوقتي.. اللحمة اللي بتتاكل واللحمة اللي بتت.... فقاطعني قائلًا: وما دخل اللحمة بالمسرح.. أتسخر مني وأنا معي البكوية.. فقلت: يا بيه والله ما بسخر منك ولا حاجة..إحنا معندناش مسرح أصلًا.. زي البكوية كدا اللي مع حضرتك.. الاتنين اختفوا من زمان.. فتمتم حزينًا: الأمة التي بلا مسرح يبرطع فيها السفهاء ويحرقونها.. قلت: مستعجل على الحرق ليه يا عم يوسف بيه.. ماهو الجماعة شغالين بيولعوا في كل حتة أهو.. قال: تقصد الإخوان.. بعد أن طار رئيسهم واتعزل.. مش كدا يا ولد ؟ قلت: طب ما أنت راسي على الفولة أهو يا عم يوسف بيه.. فقاطعني قائلًا: فول ولحمة.. هل أنت جائع يا ولدي.. ما دخل الطعام بما نقول.. قلت: لا ما تخدش في بالك يا عم يوسف بيه..تخاريف بقى.. قال: ألم تتولى جماعة الإخوان الحكم عندكم السنة الماضية.. قلت: أيوه ياسعادة البيه مسكت سنة..وكانت سنة ما يعلم بيها إلا ربنا.. قال: وهل قاموا بجهود لإحياء المسرح مرة أخرى.. ضاحكًا قلت: إحياء إيه يا بيه..دا الفن أصلًا في عرفهم حرام.. تقوم تقول لي إحياء ومش إحياء.. مسرح إيه يا بيه اللي هيفكروا فيه.. دي عالم لسه عايشة في العصر الحجري..مش هاتفكر في مسرح أصلًا.. ثم كان كفاية علينا «طلة» المعزول وكلامه..والنعمة كان ولا الريحاني في زمانه.. دا مسح كل ملوك الكوميديا بأستيكة..تصدق بالله يا يوسف بيه..إحنا كنا بنستني خطاباته زي يوم العيد عشان نضحك من قلوبنا.. فقال: إييييييه.. وما الدنيا إلا مسرح كبير.. لقد غيبوا العقول وألغوا الفكر والفن والمسرح من النفوس..فتحول أتباعهم إلى آلة للقتل.. لا تفكر ولا تشعر بقيمة الجمال.. فقلت: مع إن كلامك حلو وعجبني.. بس والله لو كنت جيت بدري شوية قبل ما يفضوا الاعتصام كنت فرجتك على أحلى مسرح.. أنت بس تتفرج على منصة رابعة كنت هتفطس من الضحك من نبوآتهم وأحلامهم.. دول كانوا مسليين بشكل.. قال: قلت لك يا ولد أنا صاحب مسرح جاد.. ومسرحي لا يهدف للتسلية.. أما ما تتحدث عنه فهو تغييب للعقول ونزعها من أجسادهم حتى يتحولوا إلى تابعين.. ينفذون ما يملى عليهم بلا جدال ولا مناقشة.. فقلت: تكبيييير! فقال: ماذا؟! فقلت: تغييب إيه.. ما هي غايبة خلقة يا يوسف بيه.. دا أنا كان نفسي أعرف الصنف اللي بيشربوه دا ومخليهم في السلطنة اللي هما فيها دي.. بيجيبوه منين دا.. اللي بيحلم بأنه حمامة على كتف مرسي.. واللى حلم بسيدنا الخضر وهو جاي يطلع مرسي من العزل ويرجعه للحكم تانى..وحاجات كدا كانت تخليك تتجنن.. قال: فعلًا الفصيل الإخواني كائن أنوي نادر.. من لا يفكر في صناعة الإنسان ويرتقي بالوطن من خلال مسرح وفن ويهتم بالفكر والثقافة لا تستغرب من اتباعه أي شيء.. فالتدمير والحرق والقتل هو كل ما في ذهن هذا الكائن الأنوي النادر.. قلت: يعني إيه أنوي دي يا بيه.. شتيمة يعني.. قال: ما تشغلش بالك! قلت: إيه يا بيه الاشتغالة دي.. حضرتك بتقلدني دلوقتي خد بالك.. ثم إيه إنسان ووطن والكلام دا.. هما ماعندهمش أوطان أصلًا ومش في عقيدتهم الكلام دا.. دا فيه واحد منهم قال «طظ في مصر».. فقال: عليه لعنة الله..صب عليه لعنتك وغضبك أيها الرب.. قلت: لا ما تقلقش..هما بيعملوا معاه الصح دلوقتي في طرة.. قال: حب الأوطان يا ولدي هو أجمل حب.. فقاطعته قائلًا: أيوه كدا يا بيه..سيبك بقى من دور راسبوتين اللي حضرتك متقمصه من الصبح دا وكلمني بقى عن الحب شوية.. يا فتك بورسعيد.. يا سفاح النساء.. يا محطم قلوب العذارى.. فاكر حضرتك لما كتبت الجواب لعمر الشريف ثم أرسلته لهند رستم وبللته بدموعك ومضيته بشفافيك وعبد المعين أفندي والبطاطين اللي هايبعتها للكونغو..وأنت مروش مع المزز على الشط يااااافتك ! قال: يا مراهق.. أنا أحدثك عن حب الأوطان وليس عن عشق المرأة.. فقلت: يا بيه عارف والله.. بس باهزر معاك عشان نخرج من الجو الكئيب اللي سببهولنا اللي ما يتسموا دول.. لكن تعرف يا بيه..والله الشعب عمل معاهم الصح ولسه هيوريهم كمان وكمان.. فقال: هذا ما جنت يداهم.. لقد أعطاهم الشعب فرصة ولكن هم أبوا إلا أن يكونوا فصيلًا متمردًا يقسم خيرات البلد على الأهل والعشيرة.. فقلت: إيه دا..هي الخطابات دي كانت بتجيلكوا.. قال: يا ولدي: لو لم يقم الشعب بثورة لكان أجدادكم لعنوكم من قبورهم إن تركتم هذا الفصيل يتحكم بمصير أعز الأوطان وأغلاها مصر أم الدنيا.. لقد كنت أشعر برفاتهم تثور وتتملل وهم يرون ويسمعون عن خطاب يتحدث عن أصابع تلعب في مصر.. سحقا للسخافات والهلاوس التي كانت تحكم مصر.. قلت: معلش..أهو إحنا صححنا السكة.. ومصر هاتفضل أم الدنيا ورأسها في سابع سما.. قال: لقد أخذت من وقتي الكثير.. وعلى أن أعود من حيث أتيت.. ويجب أن تتلو تعاويذك وطلاسمك وتصرف روحي من حيث أتيت بها.. حتى لا أرى مصر في هذا الظرف العصيب.. فأنا أفضل أن تظل في ذاكرتي وهي ساحرة الشرق وينبوع الفكر والثقافة والمسرح وتبهر العالم دوما.. وحينما تعيدون بريقها وبهاءها وتعمرون ما خربه الأفاقون والأنطاع بأيديهم..عندها يمكنك أن تستدعي روحي مرة أخرى لنحتفل بمصر الجديدة سويا.. قلت: اللي أنت تأمر بيه يا يوسف بيه..وأنا أعدك بمصر جديدة بدون إرهاب..ويسعدنا أن نستضيفك فيها مرات ومرات.. فأنت تشرفنا دائمًا. وتلوت تعاويذي وطلاسمي حتى انطلقت روحه من حيث أتت..ليتركني وحيدًا مرة أخرى.. أفكر في كلامه عن عشق الوطن وفدائه بالروح.. وصناعة الإنسان بالفكر والفن والثقافة وليس بالأمر والطاعة من جماعة السمع والنطاعة !!