ما حدث ويحدث في مصر ثورةٌ حقيقية. إنها ثورة العصر غير المسبوقة في تاريخ وادي النيل ودنيا العرب، وربما في تاريخ العالم. هل شهد أي بلدٍ على مر الزمن ثورة عارمة شارك فيها شعب بملايينه كلها، محتلًا الميادين والساحات والشوارع في كل مناطق البلاد ومعظم مدنها، من أقصاها إلى أقصاها، بمختلف فئاته وأوساطه وتلاوينه المعتقدية والسياسية والاجتماعية والثقافية على مدى أيامٍ أربعة؟ ثورة مصر ظاهرها على الإخوان المسلمين، لكن باطنها يتعدى نظامهم السياسي إلى العقيدة التي يعتنقونها ويحتمون بها ويسعون، بلا هوادة، إلى فرضها وتأويلها بما يخدم مصالحهم ومآربهم. إنها ثورة على "الإخوان" وثورة في الإسلام وليس عليه. ثورة على إسلام "الإخوان" الذي يوظف التنزيل كما التأويل في خدمة حركة شمولية هدفها بلوغ السلطة، بما هي النعمة الكبرى في الحياة واستيطانها والإقامة فيها إلى أبد الآبدين. في وجه "الإخوان" ومن سار في ركابهم، قام شعب مصر بملايينه وبكل فئاته وتلاوينه قومةَ رجلٍ واحد مطالبًا بالحرية ومنافحًا عنها، الحرية بما هي القيمة العليا في الحياة. من الطبيعي أن يثور شعب مصر طلبًا للحرية واستبسالًا في الدفاع عنها. أليس هو ضحية إرث العبودية من عهودِ فراعنةٍ قدامى بنوا بأيدي المصريين وعَرَقهم أهراماتٍ شواهد، إلى فراعنةٍ جدد أهدروا كرامة المصريين ليراكموا على أنقاضها ثرواتٍ فلكية؟ أحرار مصر أدركوا بحواسهم الخمس أن الإخوان المسلمين فراعنةٌ جدد، يتخذون من الإسلام قناعًا ومطيّة، ومن المسلمين رعايا طائعين مطواعين ليكونوا بأمرةِ مرشدٍ هو الحاكم بأمر شريعةٍ لا تقبل التأويل إلا وفق مقاصد "الإخوان" ومصالحهم ومآربهم. إرث العبودية في تاريخ مصر والمصريين طويل وثقيل، يقابله تقليد أصيل، بل ثورة متجددة في طلب الحرية مذْ صرخ عمر بن الخطاب في وجه واليه على أرض الكنانة عمرو بن العاص: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"؟ الإخوان المسلمون هم ورثة عمرو بن العاص في تقديم مصالح السياسة والسياسيين على حقوق الناس ومصالحهم والافتئات، تاليًا، على حرياتهم. فعلوا ذلك عقب ثورة 25 يناير المجيدة: انضموا متأخرين إلى الأحرار من شباب مصر في الثورة ضد نظام حسني مبارك المستبد، حتى إذا سقط النظام سارعوا إلى التواطؤ مع الحكام الجدد، أركان المجلس العسكري، من أجل احتواء الثورة والانحراف بمسيرتها إلى وجهة مغايرة. أقنعوا هؤلاء، قيل بنصيحة أمريكية، بتقديم مطلب إجراء الانتخابات على مطلب سن دستور جديد. لماذا؟ لأن "الإخوان" تنظيم قديم، متماسك، يغطي البلاد برمتها، وقادر على الاستفادة من ثقافة المتدينين الإسلامية، وهم كثر، للتصويت لهم، بينما ثوار 25 يناير مجاميع من الشبان والشابات الأحرار غير المنظّمين في أحزاب وتنظيمات، وغير المؤهلين، تاليًا، لخوض الانتخابات في قوائم متماسكة وبرامج موحدة. الانتخابات المبكرة لمجلسي الشعب والشورى، ولاحقًا للرئاسة، مكّنت "الإخوان" والإسلاميين عمومًا من التفوق على صنّاع الثورة الحقيقيين، والانفراد بالسلطة بعد إقصاء المجلس العسكري وأركانه. في السلطة تصرّف "الإخوان" على نحوٍ يحاكي نظام مبارك: استئثار بالسلطة، وإقصاء للغير بلا رحمة، وجموح في التعبير والتدبير، واستهانة بالقضاء، وجنوح إلى احتوائه بالترغيب والترهيب، ومهادنة محسوبة ل "إسرائيل"، وملاطفة لافتة للولايات المتحدة، وممارسة سياسات اقتصادية تكاد تكون متطابقة مع سياسات نظام مبارك، وتجاهل مقصود للشباب ومطالبه واهتماماته، وتحامل على الإعلام والإعلاميين وتضييق ملحوظ للحريات العامة. في مدى سنة من تاريخ انتخاب محمد مرسي رئيسًا، تآكلت "شعبية" الإخوان، وتقلّصت هيبتهم، وتداعت سطوتهم على أوساط الشعب ومرافق الدولة. المعارضة بكل تلاوينها استفادت من فشل "الإخوان" المدوّي في كل الميادين. غير أن العامل الأبرز في مضاعفة قاعدتها الشعبية كان مجافاة الإخوان، جماعةً وأنصارًا وسلطة، لمطلب الحرية. "الإخوان" عبرّوا ومارسوا في السلطة ثقافة التسلط والتزمت والقمع والعداء للتجدد ورفض الآخر المختلف والشك فيه والعمل على إقصائه. هكذا بدا الإخوان على مرأى من المصريين جميعًا مجتمعًا مغلقًا على نفسه مغايرًا ومعاديًا للآخرين. في 30 يونيو/ حزيران ثار شعب مصر كله ضد حكم الفراعنة الجدد. فراعنة التسلط السياسي والتزمت الديني حتى حدود التكفير، والانغلاق الفكري والثقافي، ومهادنة الولاياتالمتحدة و"إسرائيل"، ومناوأة الأغيار الإقليميين المختلفين. عَمْقُ الغضبة الشعبية واتساعها أقلق "الإخوان" وأخافهم. أحسوا إزاءها بأنها لا تهدف إلى مجرد إجلائهم عن السلطة، بل إلى اقتلاعهم من الحياة العامة بلا رحمة، لمسوا في صيحات الجماهير نهاية محتّمة. إلى ذلك، يبزغ لثورة 30 يونيو بُعدٌ آخر. إنّ فعلها لن يتوقف عند حدود "الإسلام السياسي" كما يجسّده "الإخوان"، بل سيتعداه إلى الإسلام ذاته. ثمة ثورة فكرية تعتمل في قلب ثورة 03 يونيو. ثورة على محاولات أشياخ الدين حبس الإسلام في قالب الشريعة، وتحنيطه في اجتهادات عتيقة صُنعت لزمن غير زماننا، ولتحديات غير التي يفيض بها حاضرنا، وأخرى تهددنا في مستقبلنا. بعد ثورة 30 يونيو، وأيًا كان خليفة محمد مرسي ونظام "الإخوان"، سيتجاوز الإسلام والمسلمون ثقافة أشياخ الماضي ومفتيْ السلاطين، ليعود كما أريد له في الأصل أن يكون: دين الفطرة والإنسان المترع بقيم التوحيد والمحبة والرحمة والحرية والعدالة. نقلا عن الخليج