مؤتمر جماهيري لدعم محمد موسى مرشح الجبهة الوطنية بالمنوفية    مؤشرات تنسيق كلية تجارة 2025 علمي وأدبي في كل المحافظات    «كيبينج» الصينية تنشئ مصنع لزجاج الألواح الشمسية بالسخنة باستثمارات 685 مليون دولار    برئاسة مصر.. انطلاق اجتماعات «الملكية الفكرية» في منطقة التجارة الحرة الإفريقية    خطة استثمارية ب100 مليون دولار.. «البترول» و«دانة غاز» تعلنان نتائج بئر «بيجونيا-2» بإنتاج 9 مليارات قدم    مدبولي: نؤكد على موقف مصر الثابت بسرعة إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة    «يوما ما سيهاجمه الذئب».. نجل بايدن يفتح النار على نتنياهو بسبب غزة وإيران    مصادر تركية: المفاوضات الروسية الأوكرانية تبدأ مساء الأربعاء    إستوبينيان يخضع للكشف الطبي مع ميلان    المصري كريم أحمد يوقع عقدًا احترافيًا مع ليفربول    «الأرصاد» تكشف موعد ذروة الموجة الحارة وحالة الطقس: درجة الحرارة 46 مئوية    تحرير 7 محاضر لأصحاب أنشطة تجارية في حملة تموينية بالعاشر من رمضان    تحمل اسم ليلى علوي.. تفاصيل الدورة ال 41 ل مهرجان الإسكندرية السينمائي    قرارات بتجديد تعيين رئيس جامعة بنها الأهلية و3 نواب    الأسد من المشاهير والحمل قائد المشاريع.. كيف يتعامل مواليد كل برج مع الحياة الجامعية؟    ب2.5 مليون.. افتتاح أعمال رفع كفاءة وحدة الأشعة بمستشفى فاقوس في الشرقية (تفاصيل)    لماذا لا ينخفض ضغط الدم رغم تناول العلاج؟.. 9 أسباب وراء تلك المشكلة    صحة غزة: 113 شهيدا و534 إصابة جراء عدوان الاحتلال آخر 24 ساعة    اللون الأخضر يكسو مؤشرات البورصة بختام جلسة اليوم    محافظ الغربية يتابع أعمال إصلاح كورنيش طنطا: نتحرك بخطوات مدروسة    خامس الصفقات.. أتلتيكو مدريد يتعاقد مع مارك بوبيل    "المطورين العقاريين" تطالب بحوار عاجل بشأن قرار إلغاء تخصيص الأراضي    رئيس الوزراء يتفقد موقع إنشاء المحطة النووية بالضبعة ويشيد بالتقدم المحقق    برلماني: "23 يوليو" نقطة تحول لبناء دولة العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني    محافظ المنيا يستعرض إنجازات العلاقات الدولية: تنفيذ مشروعات تنموية لدعم الزراعة والمرأة والتعليم    مجزرة مروعة في تل الهوى واستمرار الانسحاب الجزئي للاحتلال من دير البلح    ثورة يوليو البيضاء وثورات العالم الحمراء!    الداخلية السورية: خروج العائلات من السويداء بشكل طارئ أمر مؤقت    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 59 ألفا و219 شهيدا    ماذا يحدث للجسم عند تناول الحمص يوميا؟    أفضل الوسائل الطبيعية، للتخلص من دهون البطن في أسرع وقت    وزيرا الأوقاف والتربية والتعليم يوقعان بروتوكول تعاون لإطلاق حضانات تعليمية بالمساجد    تفاصيل الدورة ال 41 ل مهرجان الإسكندرية السينمائي.. تحمل اسم ليلى علوي    تقرير تونسي يكشف موعد انضمام علي معلول للصفاقسي    الحكومة: لا تحديات تعيق افتتاح المتحف المصرى الكبير والإعلان عن الموعد قريبا    فيريرا يركز على الجوانب الفنية في مران الزمالك الصباحي    يحتل المركز الثاني.. فيلم أحمد وأحمد يحقق 50 مليونا و812 ألف جنيه    الإفتاء توضح كيفية إتمام الصفوف في صلاة الجماعة    محفظ قرآن بقنا يهدي طالبة ثانوية عامة رحلة عمرة    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر والأصل أن تعود للخاطب عند فسخ الخطبة    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : كم نتمنى ان نكون مثلكم ?!    سيد عبد الحفيظ يعلّق على أزمة وسام أبو علي: "أخذ من هيبة المكان.. واعتذاره لتحسين الصورة"    وفاة شخصين متأثرين بإصابتهما في حادث تصادم سيارتين بقنا    أسرة مريم الخامس أدبي تستقبل نتيجتها بالزغاريد في دمياط    تعليم قنا تنظم ندوة تعريفية عن نظام «البكالوريا الجديدة»    بالفيديو.. الأرصاد: موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد حتى منتصف الأسبوع المقبل    محافظ الفيوم يهنئ وزير الدفاع ورئيس الأركان بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو    "الأعلى للإعلام" يُوقف مها الصغير ويحيلها للنيابة بتهمة التعدي على الملكية الفكرية    السيسي: مصر دار الأمن والاستقرار ولدينا 10 ملايين شخص من بلاد كثيرة    رئيس هيئة الرقابة الصحية من مطروح: تحقيق جودة الخدمات يعتمد بالأساس على تأهيل الكوادر البشرية (تفاصيل)    محمد عبد الحافظ ناصف مستشارًا للشؤون الفنية والثقافية بالهيئة العامة لقصور الثقافة    مرتضى منصور لحسن شحاتة: للأسف أنا مسافر ومنعزل عن العالم    وزير الخارجية يتوجه إلى النيجر في المحطة الثالثة من جولته بغرب إفريقيا    أسعار البيض اليوم الأربعاء 23 يوليو 2025    الوداد يتحرك لضم يحيى عطية الله من سوتشي الروسي    وفاة 4 أشخاص بطلقات نارية إثر مشاجرة مسلحة بين عائلتين بقنا    دار الإفتاء المصرية توضح حكم تشريح جثة الميت    خلال فترة التدريب.. مندوب نقل أموال ينهب ماكينات ATM بشبرا الخيمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطيب يكتب "التراث والتجديد".. ويرصد معركة الماركسية ضد الأزهر في الستينات.. العقاد وقطب والغزالي مثلوا درع الحماية من الغزو الاشتراكي.. إغفال التراث العقلي والنقلي في مشروع النهضة بمثابة "الانتحار"
نشر في فيتو يوم 30 - 05 - 2013

رصد الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب معركة الماركسية في ستينات وسبعينات القرن الماضى ضد الأزهر، موضحا أن خطب المنابر خضعت لخطة موحدة، ترتبط بالواقع المادي، مؤكدا أن الخلفيات الأيديولوجية للمذهب الاشتراكي الذي أظل المجتمع المصري لم تكن معلنة في مواجهة «الإسلام»، إلا أن الأزهر في مصر الاشتراكية كان يعاني التضييق.
وأكد الطيب في مقاله بمجلة الأزهر أن إقصاء الأزهر في ذلك الوقت سياسيا واجتماعيا وشعبيا، لم يكن أمرا سهلًا على نفوس المسئولين المصريين أنفسهم، ولكنه كان أشبه بما يسمى الآن بالمواءمة التي تفرضها ضرورات التحول السياسي والاقتصادي، وأنه ولم ينقذ الشباب من الصراع إلا نخبة من عظماء مفكري مصر الذين صمدوا لهذا الفكر الوافد من شرق ومن غرب، وكشفوا عن كثير من عوراته ونقائصه.
ورصد الطيب ما أسماه مذبحة التراث التي بدأت في الظهور على الساحة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتى، مؤكدا أن التراث يؤخذ منه ويرد عليه، رافضا «انتزاع القداسة» من النصوص الأصول في التراث، القرآن الكريم والسنة النبوية.
ويقول الطيب شيخ الأزهر: "ما زلت أذكر الكثير من ستينات القرن الماضي، ونحن طلبة في المعهد الديني، على وشك الفراغ من دراستنا الثانوية في الأزهر، حين كانت الفلسفة الماركسية والاشتراكية العلمية تغرقنا بمطبوعاتها وسلاسل كتبها، وتأخذ مسامعنا وأبصارنا كل طريق".
ويضيف: "كانت الوجاهة العلمية والثقافية تفرض على الطلاب النابهين أن تلهج ألسنتهم بأسماء أساطير الفلسفة اللينينية والماركسية والتروتسكية، وأن يتحدثوا في الفروق الدقيقة بين هذه المذاهب، ويخوضوا في أحاديث الجدل التاريخي والطبيعي وقوانين التطور، وما إلى ذلك من أصول فلسفية واجتماعية كانت معرفتها أو الإلمام بها، هي فرق ما بين الطالب النابه والطالب المنطوي على تحصيل التراث والتعرف على لغته الفنية الدقيقة التي صيغت بها عبارات الشيوخ في هذا التراث متنًا وشرحًا، وحاشية وتعليقًا".
وأكد أنه بدا أن المعاصرة التي يتطلع إليها الطلاب الطامحون للتميز تقضي عليهم اقتناء بعض مؤلفات ماركس وإنجليز ولينين وأساطين الفكر الاشتراكي، وقراءتها وتسريح النظر فيها، واتخاذها «مادة» للمناقشة والمحاورة، والمباهاة أحيانا، ولم تكن الفلسفة الماركسية التي كانت تروج تحت لافتة الفكر الاشتراكي هي التيار الوحيد الضاغط على أفكار الشباب وعقولهم في ستينات القرن الماضي، فقد كنا نعرف قليلا أو كثيرًا عن مدارس أخرى للفلسفة العلمية كالوضعية المنطقية مثلا، والفلسفة الوجودية، وغيرهما من المدارس التي كانت تلفت نظر الطلاب المتعطشين إلى ثقافة البحث عن الجديد خارج التراث".
ويوضح الطيب أن حركة التأليف والنشر كانت تغري القراء والمثقفين بالدفع في هذا الاتجاه، لأن الدولة في هذه الحقبة كانت، اقتصاديا، تميل إلى المذهب الاشتراكي وتعلي من قدره، بقدر ما تبتعد عن النظام الرأسمالي وتقلل من شأنه، وراحت تيسر على الشاب اقتناء المصادر العلمية الاشتراكية بقروش زهيدة.
وأشار إلى أن حركة الثقافة والفكر والفن والأدب كانت تنحو في توجهها العام نحو المذهب الاشتراكي في كل تجلياته الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والفنية، وتردد في بعض الأغاني والأناشيد التي يحفظها الصغار والشباب أن عدو الاشتراكية خائن للمسئولية".
وأكد طنطاوى في مقاله بمجلة الأزهر أن تأثير المعسكر الاشتراكي في ذلك الوقت وصل إلى التدخل المباشر في المؤسسات الدينية وتقييم أدائها ورصد مدى ملاءمتها للتيار الاشتراكي الذي كان يمثل التوجه الاقتصادي والثقافي للدولة".
وأذكر أنني زرت أحد كبار أساتذة الأزهر في ذلك الوقت في الفيلا التي كان يقيم بها في مصر الجديدة، وكان قد أعفي من منصبه كوزير للأوقاف، قبل سنوات قلائل، رغم نشاطه وتميزه العلمي وذكائه الحاد وجمعه بين الثقافة الأزهرية العميقة والثقافية الأوربية الحديثة، وقال لنا يومها: إن إعفاءه من الوزارة كان بتوجيه من المعسكر الاشتراكي، الذي يخشي أن يقف النشاط الديني لوزارة الأوقاف عقبة في سبيل المد الاشتراكي، «وبلغ من تغلغل هذا المد» في الشئون الدينية أن خضعت خطب المنابر في تلك الفترة لخطة موحدة، ترتبط بالواقع المادي للمجتمع وتدور معه حيث دار.
ويضرب الطيب مثالا بإحدى خطب الجمعة كان موضوعها: «أسبوع المرور» وثقافة الالتزام بقواعد السير في الشوارع والطرقات، وكان ذلك مدعاة للتندر والتفكه في المقارنة بين مسئولية إمام المسجد ومسئولية عسكري المرور.
وأكد أن المذهب الاشتراكي الذي تحولت إليه مصر في هذه الحقبة وإن كان مذهبا اقتصاديا بحتا في تطبيقاته العلمية، إلا أنه مذهب ذو جذور فلسفية وأيديولوجية، وله، في بلاد المنبع والنشأة، موقف معلن من الدين، أي دين، وبحيث يصعب جدا الفصل بين البعد الاقتصادي والاجتماعي والبعد الأيديولوجي في هذا المذهب، أو التغاضي عن الجانب الفلسفي الكائن في أحشائه، وأن أية دولة لا تستطيع، مثلا، أن تطبق تأميم الصناعات الثقيلة، أو السيطرة على الإنتاج ووسائله، أو التجارة الخارجية أو التعليم أو العلاج، دون أن تتأثر بفلسفة هذا المذهب في التهوين من شأن الدين في نفوس الناس.
وأوضح أن الخلفيات الأيديولوجية للمذهب الاشتراكي الذي أظل المجتمع المصري لم تكن معلنة في مواجهة «الإسلام» بصورة صريحة، لأن مواجهة كهذه كانت كفيلة برد المذهب على أعقابه والعودة به إلى خارج البلاد، إلا أن تأثيره، غير المباشرة، كان سلبيا على الأزهر والمؤسسات الدينية الأخرى في مصر.. وبخاصة طلاب الأزهر ممن لهم بصر بعلوم التراث العقلية والنقلية.
ونقل الطيب تقريرا عن بعثة الأزهر الشريف في زيارة إلى إندونيسيا والملايو والفلبين، في الفترة من 17 يناير إلى 16 فبراير من عام 1961 برئاسة الشيخ محمود شلتوت والدكتور محمد البهي المدير العام للثقافة الإسلامية في ذلك الوقت، وعلماء آخرين، وفي هذا التقرير الشكوي من المسئولين في مصر الذين يميلون لسحب البساط من تحت أقدام الأزهر وعلمائه، ونزع سلطاته وتسليمها لجهات مدينة بعيدة كل البعد عن العمل الإسلامي.
وأشار التقرير إلى أن ظهور كيان جديد يسمى بالمؤتمر الإسلامي ليكون البديل لكل أنشطة الأزهر العلمية والثقافية والاجتماعية التي يتواصل من خلالها مع شعب مصر ومع المسلمين في الخارج.
وشكل «المؤتمر الإسلامي»، في مصر، بعثة صغيرة من بعض أعضائه سبقت بعثة شيخ الأزهر في إندونيسيا بأسبوعين، وكان تعاقب البعثتين في هذا الوقت القصير «مدعاة للتساؤل لدى الجهات الرسمية الحكومية» في إندونيسيا، فيما يقول التقرير، الذي كشف أن مهمة بعثة المؤتمر الإسلامي تناولت «ضمن ما تناولت» بيان رسالة الأزهر للإندونيسيين، وأنها أصبحت قاصرة على شئون العبادة وحدها، وأن المؤتمر الإسلامي، في وضعه الجديد، قد أخذ الجانب الاجتماعي من رسالة «الأزهر».
وأشار التقرير، الذي استشهد به الطيب، إلى أن المؤتمر الإسلامي يطرح نفسه بحسبانه الجهة التي تعين على الربط الثقافي الروحي بين الجمهورية العربية المتحدة وبلاد العالم الإسلامي الأخري، ومن ثم فإن النداءات التي توجه إلى الجمهورية العربية المتحدة في شأن تقديم المعونة الثقافية في صورة كتب أو مدرسين أو طلاب يجب أن توجه إلى المؤتمر الإسلامي وحده.
ويعقب التقرير على العرض الذي تقدم به مبعوث المؤتمر الإسلامي إلى إندونيسيا فيقول: «وفوق أن هذا العرض من شأنه أن يضفي ظلا من الشك والريبة على علاقة الجمهورية العربية المتحدة بالبلاد الإسلامية، فإنه من جانب آخر من شأنه أن يضعف من مركز الأزهر وهيبته في نفوس المسلمين خارج الجمهورية العربية المتحدة، وذلك أمر لا يفيد منه إلا خصوم الجمهورية العربية المتحدة".
وكانت بعثة الأزهر برئاسة شيخه الشيخ محمود شلتوت في قمة الشجاعة وهي تقدم هذا التقرير إلى الرئيس جمال عبد الناصر، ويقول الشيخ الجليل في هذا التقرير: "وقد كانت مفاجأة لي أن أخبرني السيد وزير الشئون الدينية بأنه تلقى دعوة من المؤتمر الإسلامي ووزارة الأوقاف في القاهرة لعقد ندوة إسلامية في يونيو من هذا العام، وفوجئت بهذا، إذ ليس لدى الأزهر علم بهذه الندوة".
ويؤكد الطيب في مقاله أن الحرص على مكانة الأزهر في هذه البلاد كان يقتضي التشاور أولا مع الأزهر في مثل هذه الدعوة، وفوق أن ذلك ينبئ عن عدم انسجام في السياسة الإسلامية للجمهورية العربية المتحدة فهو يشعر الرأي العام الإسلامي في الخارج بتنافس الهيئات الإسلامية في القاهرة ووضع بعضها وضعا غير كريم، خصوصًا ذلك المعبد الذي له تاريخ وله قادة في العالم الإسلامي في الشارع.
ويؤكد الطيب أن تقرير الأزهر في ذلك الوقت حمل عبارات مثقلة بالأسى والألم خير شاهد على أن الأزهر في مصر الاشتراكية كان يعاني التضييق، وسلب الاختصاصات، وسجنه في زاوية العبادات فقط، وحرمانه من جماهيره ومحبيه ومريديه من المصريين ومن المسلمين عامة.
وأشار إلى أن إقصاء الأزهر في ذلك الوقت سياسيا واجتماعيا وشعبيا، لم يكن، بكل تأكيد، أمرا سهلًا على نفوس المسئولين المصريين أنفسهم، ولكنه كان أشبه بما يسمى الآن بالمواءمة التي تفرضها ضرورات التحول السياسي والاقتصادي، وما تقتضيه ظروف التحول من غض الطرف عن اللوازم الفلسفية والأيديولوجية لهذا المذهب أو ذاك.
ويقول الطيب: "هكذا عشنا نحن طلاب الأزهر في هذه الحقبة، تهب علينا الرياح الثقافية العاتية من شرق أوربا وغربها، وكنا بين طريقين إما فتح النوافذ لهذه الرياح ومعاناة الاغتراب، وإما الانغلاق في مقررات التراث ومعاناة الاغتراب كذلك.. ولم ينقذنا من هذا الصراع إلا هذه النخبة من عظماء مفكري مصر، الذين صمدوا لهذا الفكر الوافد من شرق ومن غرب، وكشفوا عن كثير من عوراته ونقائصه ونقائضه أيضا، وبينوا للتائهين من القراء والشباب مواطن الضعف والتهافت في هذه المذاهب.
ويؤكد الطيب أن العملاق الأدق العربي «العقاد» في مقدمة هذه النخبة من العظماء الذين مثلوا لجيلنا طوق نجاة، وأعادوا لنا الثقة بأنفسنا وفي تراثنا وحضارتنا، وهذا الرائد العظيم له فضل السبق والترصد لهذه المذاهب وتحطيم أصنامها وهدم معابدها بمعول لا يقوى أحد على مواجهته.
وسار على المنوال نفسه، بحسب الطيب، الأستاذ محمد البهي الذي تفرغ بعد خروجه من وزارة الأوقاف تفرغا كاملًا لنقد «المادية» وتفنيدها، وإثبات تهافت الفكر المادي في مؤلفات بالغة الرصانة والقوة، وأيضا في تفسيره لأجزاء من القرآن الكريم، اتخذ فيه من تفنيد الفلسفة المادية موضوعًا لا تخطئه عين قارئ.
وكانت مؤلفات المفكر الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي، ومقالاته ومحاضراته، «مصدات» قوية وشامخة وقفت في مهب الرياح المادية العاتية، التي كانت على وشك اقتلاع الجذور وتسطيح العقول وتزييف الوعي.
وتميزت محاولة الشيخ بيسر الأسلوب وسهولة العرض، وسرعة الانتقال في أوساط الجماهير على اختلاف درجاتها العلمية والثقافية، وقد لا نعدو الحقيقة لو قلنا إن الشيخ محمد الغزالي تفرد بالقدرة على صياغة ثقافة إسلامية رفيعة المستوي، أفاد منها المثقفون والدهماء على سواء، وكشفت للقراء عن عظمة الإسلام وحيوية القرآن والنبي الكريم محمد صلي الله عليه وسلم، وأعادت لكثير من المسلمين الثقة بقدرتهم على أن يجمعوا في حياتهم المعاصرة بين الدين والدنيا، دون أن يتطرق لنفوسهم طوارق الانفصام أو التضاد أو الاغتراب.
كما وقفت كتب سيد قطب التي ألفها ليصور عدالة الإسلام الاجتماعية في وجه الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية.
وأوضح أنه لا يمكن لأي راصد لمعركة الماركسية في العالم العربي، في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، أن يغفل أعمال محمد باقر الصدر بالعراق التي جاءت هدما وتقويضا للفلسفة المادية في مذاهب الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية، حيث أفاض الصدر في بيان المآسي الاجتماعية التي شقيت بها الإنسانية في ظلال هذه الأنظمة المادية، سواء في الفكر الرأسمالي أو الاشتراكي.
ويشير إلى أن عمل الصدر تميز بالدقة الفلسفية وبالتحليل العميق للشيوعية والاشتراكية والرأسمالية، وبنقده المنطقي المستند إلى الحجج العقلية، والدلائل الفلسفية والاقتصادية والفقهية على إفلاس هذه المذاهب، التي تنكرت فلسفة الدين وفلسفة الأخلاق، وسيظل الكتابان الخالدان على وجه الزمن، وهما: «اقتصادنا» و«فلسفتنا»، مصباحين يضيئان الطريق لكل راغب في الاطلاع على عورات الفلسفة المادية، وما نتج منها من أنظمة اجتماعية خيل للإنسان في بادئ الأمر أنها الفردوس المفقود، ثم ما لبث أن اكتشف أنها الجحيم الذي لا يطاق.
ويشير الطيب في مقاله بمجلة الأزهر إلى أنه ما إن تهاوت هذه البناءات العلمية والفلسفية في بلاد النشأة، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي حتى بدأت موجة جديدة من موجات التضليل والالتفات على المقدسات الإسلامية، وكانت الهجمة هذه المرة على «تراث المسلمين»، والعبث به، وتشريحه وتقطيع أوصاله، ولا تزال هذه الهجمة تواصل حملتها حتى يومنا هذا، وقد نشأت في هذا الاتجاه نظريات عدة تدور حول ما أسماه بعض الكتاب بمذبحة التراث.
وعقدت ندوات كبرى تناقش قيمة التراث في تحديث العالم العربي، وهل هو عنصر فاعل قادر على صنع مشروع يحقق نهضة العالم العربي والإسلامي، أم أنه عنصر جامد ميت معوق؟! وحينئذ يحق للمشروع النهضوي، فيما رأى البعض، أن يبدأ من فراغ، ويحق لنا أن نتجه إلى أوربا وأمريكا نقتبس منهما ما نستطيع اقتباسه وتمثله وهضمه، لا نتردد ولا نتحرج ولا ننظر إلى دين أو شريعة أو حضارة عربية وإسلامية.
ويقول: إن طائفة من كبار مفكرينا الأصلاء نظروا إلى التراث نظرة شديدة التوازن، ونبهوا إلى أن إغفال تراثنا العقلي والنقلي في مشروع النهضة هو بمثابة «الانتحار» أو الدمار الحضاري أو «السقوط» في هاوية لا قرار لها، وأنه لا يتسنى لحضارة عربية حديثة أن تستوي على سوقها إلا إذا اعتمدت على «تراثها» في عملية التحديث، حتى تستبين شخصيتها وتتحدد لها ملامحها وقسماتها بين الحضارات الأخرى.
وأكد أن التراث يؤخذ منه ويرد عليه، يؤخذ منه ما يكون ثقافة تقبل أن نعيشها الآن، ويرد ما كان منه ثقافة لصيقة بالعصر الذي أنتجها وسوغها وارتبطت به ارتباطا وثيقًا، ولم تعد الآن من هموم هذا العصر أو صوالحه، وهؤلاء هم الوسطيون الذين آمنوا بثوابت التراث ونادوا بالحفاظ عليها، ونظروا إلى متغيراته بعين الاحترام والتقدير، لكن في إطار تبدلاتها وتحولاتها التاريخية، حسب تطور الظروف وتقدم العصور والمستجدات الطارئة، ولكن هذا لا يعني أن نحكم عصرنا بمتغيرات عصور لا تلبي حاجات هذا العصر، وعلينا أن نفتح باب الاجتهاد.
ويشير الطيب إلى أن طائفة أخرى اشتطت في دعوتها فأطلقت حق الاجتهاد لكل مفكر ومثقف، حتى لو كان غير مؤهل وغير مستوف لشروط الاجتهاد وضوابطه، ورغم أن هؤلاء جديرون بحركة إحياء للتراث بغرض تطويعه لمستجدات العصر، إلا أنهم اختلفوا طوائف ومدارس: فمنهم من جرد التراث من أخص خصائصه، أعني النص المقدس، أو «قداسة النص» واستبدل بها ما يسمى عندهم ب«تفكيك المقدس»، ومنهم من حصر التراث أصولًا وفروعًا في فترة تاريخية منتهية، وهؤلاء هم أصحاب مذهب «تاريخية النص»، ومنهم من أحال التراث برمته إلى أصول مادية، ليسلك به درب المذاهب المادية التي تتوقف عند حدود المحسوس ولا تعترف بما وراء العالم المادي.
وأشار إلى أن آخرين لجئوا إلى تطبيق علم «الهيرمينوطيقا» في تفسير النص القرآني وتأويله، ونادوا بأن فهم النص غير ثابت وليس نهائيا، وأن قراءته مفتوحة ولا فرق في ذلك بين نص أدبي أو نص ديني، والقرآن، عندهم، نص لغوي، تكون في ثقافة عصره وظروفها وتاريخها، ولا يمكن فصله عن بيئته وثقافته التي نزل فيها.
وأكد أن أصحاب هذا التوجه ينطلقون من التسوية بين النص القرآني المقدس، والنصوص التاريخية، ونصوص التوراة والإنجيل في خضوعها للقراءات الحداثية، غير عابئين بالفروق الدقيقة الحاسمة بين نص القرآن وهذه النصوص، من حيث اختلاف طبيعة المصدر، فهو في القرآن إلهي مقدس، وفي غيره كتابات أو إلهامات مؤلفة ومدونة، ونص القرآن الكريم لم يتعرض لتدخل بشري بالرواية أو باستحضار الأحداث أو بالصياغة بعد موت صاحب النص، أو بوحي من تأثير البيئة والواقع التاريخي ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم أي دور أو عمل إلا نقله وتبليغه للناس كما سمعه ووعاه عن الوحي حرفًا حرفًا وكلمة كلمة، ثم إن النص القرآني قد توفرت له طرق عجيبة في توثيق النص وحفظه وصيانته وخلوده، لم تتوفر لأي نص آخر من النصوص التاريخية أو الدينية أو الأدبية أو غيرها.
وأكد أن هذه الفروق الكبرى هي التي سوغت للغربيين أن يخضعوا هذه النصوص التي يتدخل فيها العمل البشري للقراءات الحداثية، إذ هي نصوص مات أصحابها، ومن حق قارئها أن يضرب صفحا عما كان يقصده هؤلاء الموتى في نصوصهم من معنى محدد أو فهم معين، ومعلوم أن الحداثة الغربية تقتضي أول ما تقتضي قطع الصلة بالماضي وآثاره، «لما انطبع في ذاكرتهم من أشكال التخلف التي عانوها في القرون الوسطي، حتى أنهم أصبحوا يفرون من كل ماض، ولو كان ماضيهم القريب، فرارهم من موتهم.
وأوضح أن هذا الحال لا ينطبق على ذاكرة المسلمين، لأن هذه القرون كانت تشهد على تحضرهم فقد أبى بعض الدارسين إلا أن يبنوا على أن الأمة المسلمة ينبغي أن تحذو في علاقتها بتراثها وتاريخها حذو الغرف في علاقته بتراثه وتاريخه، فجاءوا بقراءات للقرآن تقطع صلتها بالتفاسير السابقة، طامعين أن يفتحوا عهدًا تفسيريا جديدا.
وأشار إلى أن الواقع الأوربي الذي نتج منه المنهج الحداثي كان واقع صراع مرير بين المفكرين والأدباء والفلاسفة من ناحية، والدين والكنيسة ورجالها من ناحية أخرى، ويكشف الصراع عن انتصار ساحق لرجال الأدب والفلسفة، وسمو فلسفتهم «الفلسفة التنويرية»، في إشارة صريحة إلى أن فلسفة خصومهم من رجال الدين والكنيسة هي فلسفة ظلام وجهل وتخبط، يجب أن تنجلي غمتها عن الناس، ومن هنا لم يتردد فلاسفة التنوير الغربي في أن يصدعوا بأن الفكر الحداثي يشتغل بالإنسان وينفض يديه من «الإله» جملة وتفصيلا، وأن العقل وحده هو المرجع وليس الوحي الإلهي، وأن الدنيا هي محور تعلق الإنسان وتوجهه واشتغاله وليس الآخرة.
ويوضح الطيب أنه بهذه المقدمة يقدم لبحث يجمع في منهجه بين مختلف التوجهات، وذلك يعد «بعد» ما ينطلق من مبدأ «انتزاع القداسة» من النصوص الأصول في هذا التراث وأعني بها: القرآن الكريم والسنة النبوية، ثم يفتح الباب بعد ذلك لتاريخية النص، وللمادية الأصولية التي تعني أن وحي القرآن والسنة كان نتيجة لحراك الواقع المادي على الأرض، فهو الذي يستدعيه استدعاء السبب مسببه والعلة معلولها، وهو الذي يغيره حين يتغير، وهو الذي يتحكم فيه نزولًا وتغييرًا وحذفًا وتعديلًا.
ويؤكد: "رغم احترامنا للدكتور حسن حنفي فإن من الواجب العلمي علينا أن نذكر بأن مشروعه ومؤلفاته بمجلداتها الضخمة جاءت كلها تقول إن التراث بأصوله وفروعه، لا يصلح للاعتماد عليه في هذا العصر، ولابد من إعادة إنتاجه وتوظيفه عبر التجديد، إلى هنا قد نتفق معه بصورة أو بأخرى إذا تمت عملية التجديد على أساس استبقاء الأصول والثوابت وكل النصوص القطعية، مع الاجتهاد المنضبط بالنقل والعقل في الفروع الظنية القابلة للتحرك لمواكبة ما يستجد من النوازل والقضايا.
ويؤكد أنه يختلف معه أشد الاختلاف في أن يجيء التجديد هدمًا وتبديدًا للمسلمات الأولى والثوابت القطعية للتراث وأصوله، ومسخه وتشويهه ثم تقديمه بعد ذلك للمسلمين بحسبانه طوق النجاة لحياتهم المعاصرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.