نتجرع الكذب كل صباح ونأكل الخداع في الظهيرة ونعاشر الغش قبل النوم، الجميع يروج للرواية التي تخدم مصالحه، قبل سنوات قليلة كانت الأكاذيب تستغرق وقتا حتى تصل إليك، فتنعم بقليل من راحة البال أو العيش في عالم من الفراغ، حيث لا كذب أو صدق لا حلو ولا قبيح، وضع سلبي كماء البطيخ لكنه مستقر ومريح، لكن الآن أحضرت لنا السوشيال ميديا الأكاذيب المغلفة بالمواقف الإنسانية والمعلومات المغلوطة على طبق من فضة لنأكلها طوال اليوم ونستمتع بمضغها وهضمها وعندما نكتشف زيفها نخرجها بلا وخذة واحدة بضمائرنا على مشاركتنا في ترويج الوهم. تلبستني حالة من الضجر الدائم، عصبية مفرطة لم أتمكن من التخلص منها حتى الآن، كلما شاهدت منشورات راغبي الشهرة وعبيد اللايك والفولو على السوشيال ميديا، مروجي الكلمات المغلفة بالكذب، خيال واسع، أوهام متجددة لا تنضب، كل شيء مباح من أجل حجز نصيب من الشهرة، مجتمع جديد تشكل من حولنا في غفلة منا فأصبح يهدد وجودنا، رغم إيجابيات السوشيال ميديا لكنها في حقيقتها كارثية وضررها عظيم، هي كالبيرة مفيدة لمن يعانون زيادة الأملاح في الجسد لكنها تذهب العقل في نفس الوقت. وصل الكذب إلى كل المشاعر الإنسانية، أصبح التلاعب بمشاعرنا ورؤية ردود أفعال صدمتنا لذة لدى هؤلاء، وانساق الناس خلفهم وأصبحت محتويات مثل "شاهد صدمة أمي، زوجتى كادت تقتلني، عملت مقلب في المكوجي" هي عوامل الجذب الأولى ومصدر ربح دائم رغم زيف تلك المشاهد، جميعنا نعرف أن أحمد لا يفاجئ زينب أو أمه أو أخته بالمقلب لكنه يكتب السيناريو ويطلعهم عليه ثم يضغط زر تشغيل الكاميرا ويبدأ شريط الزيف في الدوران. ترديد الأكاذيب من حولنا أفقدنا الثقة في محيطنا، وجعل الشك هو البطل الأول في حياتنا، فنحن نعيش ثورة شك بدون جدال، أي منشور يطرح مشكلة أو كارثة أصبحت أميل لتكذيبه حتى يثبت أمامى العكس بعد أن سعى بعض عبيد الشهرة والمقالب إلى استغلال كل ما يمس مشاعر الناس لزيادة متابعيهم، ولا أكثر من الأختين دينا وسلمي اللتينن استغلتا صفحة محترمة للبحث عن المفقودين وروجتا لمنشور بصور إحداهما في صغرها وادعتا ضياعها من أهلها قبل 25 عاما لتلتهب مشاعر الجماهير وينفجر اللايك والشير لرد الفتاة المكلومة إلى أهلها والاستمتاع بمشهد درامي لم يتكرر منذ عثر عادل إمام على أمه أمينة رزق في فيلم المولد، لكن تنكشف الحقيقة بعد ساعات وأن الأمر في مجمله مزحة سخيفة من الفتاتين استغلتا بها مشاعر الجماهير العريضة وجعلتا مصداقية صفحة محترمة للبحث عن المفقودين على المحك، قاتل الله الفتاتين. هذا الكذب الممنهج والمستمر جعلني أميل لتكذيب قصص المآسي المروجة على السوشيال ميديا بشكل مطلق حتى ولو كان مصدرها صديق عزيز جمعتني به الحياة على كل خير.. لأني لو تركت نفسي لها سوف أصاب بلا شك بأزمتي القلبية الأولى خلال شهر أو شهرين على الأكثر بسبب الضجر والخوف المستمرين، واشتعال رأسي من التفكير الدائم في حال الدنيا التي تحولت إلى جهنم صغيرة، وبالتأكيد سيرتفع ضغطي ويزيد الكوريستيرول في دمي وأصاب باضطرابات بعضلة القلب بسبب الهم والغم الذي لا يد لي فيه ولا هو حتى يشغلني شخصيا لكنه يحيط بي ويحاصرني عبر السوشيال ميديا، وقتها بالتأكيد سأصاب بأزمتى القلبية الأولى وأصبح طريح الفراش بالعناية المركزة أتلقى الصدمات الكهربائية على صدري كلما استقرت نغمة جهاز قياس نبضات القلب طالما ظللت أتابع هذا السخف طويلا. وربما تنتهى بى الأحوال لكراهية نفسي ومن حولى وبلدي والبلاد المجاورة لها بسبب منشورات الظلم والمظلومية الدائمة، وخاصة منشور الرجل الضخم ذي السلطة المرعبة صاحب السيارة الفارهة الذي تسبب في تبول طفل لا إراديا أمام والده المكلوم الغلبان أبو عربية 128 في الساحل الشمالي، وهي قصة تجعلك تحبس نفسك داخل الحمام وتجهش بالبكاء لدقائق بعيدا عن أعين ابنك الذي تفكر بأنه سيكون الضحية التالية للرجل الضخم، رغم أنك لا تعلم حقيقة الواقعة وهل هي من خيال السيدة المؤلفة أم من الواقع لكنها أضافت لها بعض البهارات لتثير غددك الدمعية. الاستسلام لهذا الواقع الافتراضي ربما ينتهي بي كجثة شاردة وسط البحر المتوسط بعد محاولة فاشلة للهجرة غير الشرعية، بعيدا عن هذا البلد الذي كونت السوشيال ميديا نصف معلوماتك عنه على الأقل خلال السنوات السبع الأخيرة، وعندما أقول ذلك فأنا أعنيه بشدة فأنت وأنا لسنا أكثر وعيا أو ثقافة أو احتكاكا بالتكنولوجيا من 50 مليون مستخدم لفيس بوك تلاعبت بهم الشركة الزرقاء وشركة كامبريدج انالتيكا وحصلوا على بياناتهم لخلق حالة إيجابية حول المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية وقتها والرئيس الحالي دونالد ترامب، نحن لا نملك التكنولوجيا ولا نعلم ما يدور في مخططات مارك زوكربيرج ولا ندري ما يخبئه لنا الواقع الافتراضي، لكن نستمر في الاستهلاك والاستسلام وإهدار الوقت لا أكثر. اعتزال فيس بوك في العموم هو من الأمور التي يسترد بها الإنسان عافيته لأنه يترك مراقبة الناس وأحوالهم بحلوها ومرها ويصب تركيزه على التفكير في نفسه فقط ويتفرغ لمسؤولياته الضرورية التي قد يؤجلها دون شعور بسبب ارتباطه بالتصفح واللايك والشير.