"ليس كل ما يتمناه المرء يدركه"، هذه عبارة نشأنا عليها نحن حرافيش هذا الوطن، وحفظناها عن ظهر قلب، اقتناعا أو غصبا، المهم أننا عشنا حياتنا فى هذا الوطن وليس علينا إلا التمنى دون انتظار نتائج، ويبدو أن الثورة قد غيرت هذا المفهوم ليصبح الحرافيش لا يتمنون شيئا يعلمون أنهم لن يدركوه، فأصبحنا لا نتمنى من الأساس، أكتب هذه المقدمة عقب قراءتى لهذه الرسالة التى وصلتنى من أحد أصدقائى الحرافيش، وأنقلها لكم بنصها: عزيزى الحرفوش الكبير.. أكتب هذه الرسالة وعلى طاولتى وثيقتين؛ إحداهما أطلقوا عليها لقب "تمرد"، هذه الورقة التى أعطاها لى أحد الشباب، طالبا منى التوقيع عليها وإعلان تمردى على النظام الحاكم، أخذت الورقة وأنا أنظر فى وجه الشاب دون تعليق.. قال كلاما كثيرا يحفزنى به على التوقيع مثل: "مرسى خربها والإخوان هيبيعوا البلد وإحنا لو سكتنا هنبقى عبيد للمرشد"، كنت أسمع ولا أنصت، كنت ألمح الشاب ولا أراه، إلا أننى أومأت له برأسى موافقا، وأخذت الورقة واستدرت ناحية بيتى، جذبنى الشاب وكأنه يريد أن يستوعب ما آل إليه أمرى، فقلت له: سأوقعها فى البيت وأصورها ليوقع عليها باقى أفراد عائلتى وجيرانى، فابتسم الشاب وربت على كتفى واستدار ليرحل، لم أكن يا سيدى أرفض التوقيع، ولم أكن أكذب على الشاب عندما قلت له إننى سأقوم بتصوير وثيقة "تمرد"، لكننى كنت أشعر ساعتها بالدوار الذى ألم برأسى، واجتررت ذكريات زمن لو كان حدث فيه مثل هذا الموقف لكان ردى على الشاب هو: سيبنى آكل عيشى فى أم البلد دى، ثم أتركه وأرحل دون تردد، فلقد كنا نمشى فى الشوارع ونشعر بأن هناك من يرانا -غير الله طبعا- ويعد علينا تحركاتنا فى حال سولت لنا أنفسنا بالتفكير فى التغيير. هنا علمت أن الثورة هى صاحبة الجميل فى التخلص من هذا الإحساس، لكنى سألت نفسى: هل يكفى هذا ثمنا لكل ما بذله الشباب من دماء، فقد زاد الفقراء أمثالى فقرا، بل ولحق بنا من كان ليس منا، فزاد تعدادنا فى زمن حكم الإسلاميين، وهذا هو عجب العجاب يا سيدى الحرفوش الكبير. الإسلاميون الذين تمنيناهم ليخلصوننا من فاقة الفقر فزادونا فقرا على فقر، وقيل لنا: "ليس كل ما يتمناه المرء يدركه"، فسكتنا لأننا تعودنا على هذا الحال، لكن لم تكف قلوبنا عن الأنين، ولم يسكت أبناؤنا عن السؤال المُلح: أليس هؤلاء هم حملة القرآن الذين تشدقتم بأنهم سيصلحون حال البلد؟! ولا إجابة منا تشفى غليلهم، حتى جاءنا الرد من شباب يطلبون منا التوقيع على وثيقة "تمرد"، فليوقعوا كما شاءوا، وليفعلوا ما يحلو لهم فى هذا النظام الحاكم، لكننا لن نوقع يا سيدى، أقسم لك أننى لم أستطع التوقيع، ليس لأننى أأباه ولكن لأننى أكذب نفسى وأكذب ما آل إليه حال الرئيس المؤمن وبطانته الملتحية، لأننى آسف على تاريخ من الكذب والتملق بلساننا، نحن فقراء هذا الوطن، حتى وصلوا إلى الحكم، فما كان منهم إلا النظر لأنفسهم وقبيلتهم وعشيرتهم الإخوانية. لم أوقع على الوثيقة يا سيدى، وليس معنى هذا أننى مع الشرعية كما يطلق البعض، بل أنا مع نفسى، يلتهمنى الألم ويعتصرنى الحزن، حتى أصبحت لا أشعر بما يدور حولى، وعدت للغيبوبة التى كنت فيها أيام حكم مبارك وحبيب العادلى. والذى هّمنى وغمنى أن باب بيتى قد طرق معلنا عن قدوم أحد شباب المنطقة، لكنه هذه المرة كان ملتحيا، الشاب يحمل فى يده وثيقة لكنها تحمل شعار "تجرد" وليس تمرد، الشاب يطلب منى التوقيع، فأعود لأشرد بذهنى رغما عنى. الشاب يتكلم كلاما من عينة الشرعية وإعطاء الفرصة كاملة للرئيس، وأشياء من هذا القبيل، استمع للشاب دون أن أنصت إليه، ألمحه دون أن أراه، آخُذ منه الورقة وأعده بأننى سأوقع وأننى سأقوم بتصويرها ليوقع الأقارب والجيران فيربت على كتفى ويرحل، فأعود لأشرد، ثم أترك الوثيقتين على طاولتى وأخرج ناحية منزل أحد جيرانى فيشير لى بالورقتين اللتين لم يوقع على أيهما بعد، فأعرف أن الحرافيش لن يوقعوا على "تمرد" ولا حتى على "تجرد"، لكن ردهم سيكون فى الشوارع وعلى صناديق الانتخابات فعدت إلى بيتى لأكتب إليك هذه الرسالة بعنوان: لن نوقع على تمرد ولا تجرد، لكننا سنرد فى صناديق الانتخابات!!