بطرس غالي... تحتفظ ذاكرة التاريخ بأسمه كونه أحد الشخصيات السياسية المؤثرة في العالم أجمع، اختارته "فيتو" ضمن قائمة طويلة لأبرز الأقباط الذين سطروا التاريخ، لتحتفى بهم في عيد ميلادها الثامن الذي تزامن مع احتفالات أعياد الميلاد. "بطرس غالي: المسيحي، المتزوج من كاثوليكية تنتمى لأسرة يهودية، المرشح من دولة إسلامية، القادم من أفريقيا، متحدثا اللغة العربية"، هكذا كان الشعار والمكون الذي اختاره فريق حملة الدكتور بطرس غالى، عندما كان نائبا لرئيس الوزراء، وزير دولة للشئون الخارجية بمصر، خلال حملته للترشح لتولى منصب الأمين العام للأمم المتحدة عام 1991. هذا الشعار يلقى الضوء بشكل مبسط ومختصر على ما يتمتع به بطرس غالى من شخصية تتسم بالتنوع والثراء الفكرى، أضف إلى ذلك خبراته الدبلوماسية الطويلة، والأطول منها خبراته العلمية والمنتج العلمى والثقافى الكبير الذي خلفه كأستاذ للقانون الدولى والمنظمات الدولية بكلية الحقوق ثم كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وكونه قامة قانونية رفيعة المستوى في القانون الدولى، وبالإضافة إلى كل ذلك ممارسته للعمل الصحفى وكتابة آلاف المقالات والتحليلات السياسية والاقتصادية والقانونية من خلال تأسيسه لمجلة السياسة الدولية ومجلة الأهرام الاقتصادى وترؤسه لهما لسنوات طويلة. فبطرس غالى هو الأستاذ الأكاديمى الذي ازدهر في قاعات العلم والبحث في أرقى الجامعات المصرية والدولية، وهو السياسي الذي تربى بالاتحاد الاشتراكى، فكان قياديا بارزا بالحزب الوطنى الديمقراطى وعضوا بالبرلمان، وهو أيضا الدبلوماسى المحنك الذي قاد السياسة الخارجية المصرية في واحدة من أصعب مراحل التاريخ الوطنى ولمدة 15 عاما، وهو المفكر والكاتب صاحب الرأى والفكر، وهو أحد أبرز رجال القانون الدولى ذائع الصيت في المحافل الدولية. بطرس غالى الذي بدأ حياته الدبلوماسية في واحدة من أصعب المهام على الإطلاق والمتمثلة في زيارة القدس برفقة الرئيس الراحل أنور السادات بعد سنوات من الكراهية والعداء والقتل والدماء واحتلال أراضى الوطن وتحرير جزء غال منها بسيناء، وصولا لإعادة كل سيناء لحضن الوطن، هو الذي قاد أيضا الدبلوماسية المصرية لعودة مصر إلى أفريقيا بقوة، فكان من أكثر المؤمنين بأهمية وإستراتيجية البعد الأفريقى في دوائر الأمن القومى المصري، وهو ما لمسناه جميعا بعد أن غادرنا إلى الأممالمتحدة فبعدت الشقة بيننا وبين دول القارة السمراء فكان ما كان بالنسبة للنيل ولأمور أخرى كثيرة. وبطرس غالى هو أيضا سليل عائلة الباشوات، فجدّه بطرس غالى رئيس الوزراء الأسبق وعمه وزير خارجية، فهو ولد ونشأ في قصور علية القوم، غير أن كل من تعامل معه يستشعر به قدرًا هائلًا من البساطة والتواضع والرقى في التعامل باعتباره ابن بلد، وربما تربيته بمنزل جدته أم الباشا بمنطقة الفجالة هي التي تركت به هذا التأثير الكبير. كل ذلك وغيره يجعل من الصعب جدا على أي مراقب أو باحث أن يلم بكل تفاصيل وجوانب ومناقب وآراء ومكونات شخصية الدكتور بطرس غالى، في مساحة محدودة نظرا لهذا التنوع والثراء الكبيرين، فضلا عن المناصب الكثيرة جدا التي تولاها على مدار سنوات عمره التي تخطت التسعين بثلاث سنوات. أنا وبطرس غالى "ما آخر كتاب قرأته؟" بدأت علاقتى غير المباشرة مع الدكتور بطرس غالى، في سنوات عمرى الأولى بالجامعة، عندما التحقت بالعمل بإحدى الصحف الأسبوعية، وكتبت مقالا عام 1991 بعنوان "لماذا لا نرشح بطرس غالى سكرتيرا عاما للأمم المتحدة"، ولاقى المقال إعجابا وتقديرا كبيرا من الصحيفة، جعلتها تبرزه بشكل لافت، حصلت به على أول مكافأة في حياتى الصحفية، وأوردت خلال المقال الدوافع والأسانيد والمبررات والمسوغات المؤهلة لتولى غالى لهذا المنصب الدولى الرفيع، خاصة أنه كان قد سبق واختير وزير الخارجية الدكتور عصمت عبدالمجيد أمينا عاما للجامعة العربية بعد عودة مقرها للقاهرة، وأن الجمع ما بين قيادة الأممالمتحدة والجامعة العربية حدث غير مسبوق، وما يمكن أن يعود من ذلك على مصر ماديا ومعنويا إذا حسن استغلاله. وقد تعددت لاحقا كتاباتى عن بطرس غالي، كما تعددت لقاءاتى معه، حتى اعتقد البعض من محدودى الفكر أننى مسيحي، فكانوا يبادروننى بالسؤال عن اسمى الرباعي، وأعرف لاحقا مغزى ذلك. ورغم المناصب التي لا حصر لها التي تولاها غالى ورغم ما وصل إليه من مناصب دولية رفيعة المستوى، إلا أنه لم يتخلَ عن تواضعه ودماثة خلقه وروحه المرحة وعلمه الفياض، فكان يحرص كلما التقيته على استقبالى على باب مكتبه، وتوديعى بعد اللقاء حتى المصعد، وبعد إصرار شديد وجهد جهيد منى يتوقف عند باب مكتبه، وبين الاستقبال والوداع كانت تدور بيننا نقاشات حول الأحداث على الساحة الوطنية والإقليمية والدولية الآنية، أو ما عاصره من أحداث جسام في مراحل حياته المختلفة يرويها بلغة الحكّاء الماهر والمفكر الحاذق والمسئول المستنير. غير أنه في كل لقاء كان يبادرنى بالسؤال "ما آخر كتاب قرأته؟"، وتتوالى أسئلته حول أهم النقاط التي استوقفتنى بالكتاب، وما حققته من استفادة منه، ثم يتناقش معى حول النقاط التي أتحدث عنها، ويحلل بعضها وكأنه يصيغ كتابة الكتاب من جديد بفكر مختلف ومن زوايا متعددة، ثم يرشح لى كتابا أو أكثر لقراءته، وذكر غالى في أحد البرامج التليفزيونية أن عمه وزير الخارجية في العهد الملكى عندما كان يزور جدته ويلتقيه كان دائم السؤال له عن آخر كتاب قرأه، ويتناقش معه حوله، ويبدو أن بطرس غالى ورث عن عمه هذه العادة. ولقد كان هذا منهجه دائما، فقد روى لى أحد تلامذته أنه في فترة الستينيات كان مكتبه كأستاذ للمنظمات الدولية قبل أن يتم إنشاء مبنى خاص لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، موجودا بكلية الهندسة، وكان يخصص ساعتين في أيام تواجده بمكتبه لمن يريد أن يسأل أو يستفسر أو يستوضح أي أمر من أمور الدراسة، وكان الطلبة في ذلك الوقت تستحوذ عليهم أفكار أفلاطون وأرسطو من خلال دراساتهم للنظم السياسية، ويناقشونه فيها، فكان ينبههم بأن عليهم الاهتمام بالعلاقات الدولية وأن أفكار وقيم أفلاطون وأرسطو على أهميتها تبقى لامجال لها في الواقع الحالي، وبادر بسؤال أحدهم: "بوجوتا عاصمة أي دولة؟"، فلم يعرف أحد من الحضور أنها عاصمة كولومبيا، فانتقد ذلك، وطلب من كل منهم أن يخصص دفترا يسجل فيها اسم الدولة والعاصمة ونوع النظام الحاكم والنظام السياسي والعملة لكل منها، وكان دءوبا في نصح تلاميذه على القراءة والاطلاع في كل مجالات الحياة لتوسيع الأفق وتحصين النفس واتخاذ القرارات الثاقبة وتكوين الرؤية السليمة الواضحة. كل هذا الحرص من جانبه على القراءة والاطلاع والمتابعة جعلنى لا أندهش كثيرا كالآخرين، عندما أهدى مكتبة الكتب النادرة والمجموعات الخاصة بالجامعة الأمريكية مجموعة من الكتب النادرة ضمت 13 ألف كتاب، بلغات مختلفة، حيث كان يتقن الحديث بالعربية والإنجليزية والفرنسية بطلاقة. «بطرس غالى وعملية السلام» "يعتقد كثيرون أنه تم اختيارى وزيرا بشكل مفاجئ، عقب استقالة وزير الخارجية إسماعيل فهمى، اعتراضا على قرار الرئيس أنور السادات بزيارة القدس، في نوفمبر 1977، والحقيقة أننى قبلها كنت أشغل منصب وزير دولة بمجلس الوزراء، وكنت مسئولا عن ملف التكامل المصرى – السوداني"، كذلك أكد بطرس غالى في أحد حواراته معي. وكشف غالى عن الطريقة الطريفة التي علم بها بنبأ اختياره للمنصب الوزاري، حيث تصادف أنه كان بمطار القاهرة لاستقبال زوجته في رحلة عودتها من إيطاليا، وأنه التقى هناك إحدى الصحفيات التي أبلغته بأن الإذاعة أذاعت نبأ اختياره وزيرا للدولة، وأنها اندهشت عندما اكتشفت عدم معرفته بالقرار، مؤكدا أنه اتصل برئيس الوزراء ممدوح سالم محاولا الاعتذار نظرا لارتباطاته الدولية والأكاديمية المتعددة، وأن سالم نصحه بالجمع بين المنصب الجديد ومهامه الأخرى، وعدم الاعتذار عن المنصب حتى لا يغضب السادات منه. وحول قرار زيارة السادات للقدس أوضح أنه فوجئ مثله مثل باقى المسئولين بإعلان الرئيس السادات القرارَ بالبرلمان، وفى وجود رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وأنه اعتبر حينما سمع ما صدر عن السادات من قبيل الكناية أو الضغط على إسرائيل لتحريك الموقف المتجمد، وأنه فيما بعد علم أن اثنين أو ثلاثة أشخاص فقط كانوا يعلمون أن ما صدر عن السادات جاد ومقصود، وليس من قبيل المبالغة، وأنه سبقته اتصالات غير مباشرة مع الجانب الإسرائيلى حول ذلك، مؤكدا أنه كانت الاتصالات بشكل أو بآخر بين مصر وإسرائيل حتى في وقت عبد الناصر وهذه طبيعة العلاقات الدولية، فكل الدول حتى أشدها عداوة وفى أوقات الحرب واللا حرب تكون دائما هناك قنوات اتصال بشكل أو بآخر، مباشرة أو غير مباشرة. وحول قبوله منصب وزير الخارجية في أعقاب استقالة إسماعيل فهمى وعدم اتخاذه موقفا مماثلا، أكد أن لكلٍ قناعاته، ولكل منهما توجهاته الفكرية والسياسية، وأنه مؤمن بأنه لم يكن لمصر أن تحافظ على وحدة أراضيها وتستعيد كامل سيناء إلا بهذه الخطوة المهمة، وأن عددا من المقالات التي كتبها بمجلة السياسة الدولية قبل أن يتولى المنصب الوزارى وبعده كانت تدور حول ضرورة محاصرة إسرائيل بالسلام طالما أن الدول العربية غير قادرة على محاصرتها بالحرب. وذكر غالى في موضع آخر، أنه سأل رئيس الوزراء ممدوح سالم خلال إحدى الزيارات الخارجية، عن سبب اختياره للمنصب الوزاري، فأبلغه أن مقالاته بالسياسة الدولية والأهرام الاقتصادى راقت للرئيس السادات وله، وأنهما رغبان في الاستفادة من أفكاره وتوجهاته. «بطرس غالى والصحافة» رغم أن الدراسات الأكاديمية والتوجهات الفكرية لبطرس غالى تركزت في دراسة القانون الدولى والعلوم السياسية، فإن ولعه بالكتابة والصحافة، والذي بدأ معه في سن مبكرة من حياته، حسب قوله، وقيامه بكتابة بعض مقالات الرأى وهو في المرحلة الثانوية والجامعية ونشرها ببعض الصحف، دفعه لتأسيس عدد من الإصدارات الصحفية ذات الطابع الخاص التي لم يستطع أحد رغم مرور عشرات السنوات على إصدارها، أن يعيد تكرار هذه التجربة الناجحة أو أن يقيم تجارب مماثلة، لتظل تجارب فريدة من نوعها. أول هذه الإصدارات مجلة "السياسة الدولية"، والتي أسسها بطرس غالى عام 1965 وتصدر بشكل دائم منذ تأسيسها عن مؤسسة الأهرام، وأولاها غالى اهتماما خاصا وكبيرا للغاية رغم كل ما تولاه من مناصب ومهام، وظل يكتب افتتاحية المجلة منذ عددها الأول عام 1965 وحتى عدد يناير 1992، وهو الشهر الذي تولى فيه منصب الأمين العام للأمم المتحدة، ولم يعد للكتابة إليها مجددا إلا عام 2015 أي قبل وفاته بعام واحد، وذلك بمناسبة الذكرى الخمسين لصدورها. ولم يكتف بإصدار مجلة السياسة الدولية فقط، فأصدر أيضا مجلة الأهرام الاقتصادى إيمانا منه بأن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة. ومارس نفس الدور أيضا بوزارة الخارجية، فحرص على الاهتمام والإشراف على إصدار ما عرف ب "الكتب البيضاء" من جانب الوزارة، سواء باللغة العربية أو بلغات أخرى، بغرض التوثيق لدور الدبلوماسية المصرية بشأن العديد من القضايا والمسائل من بينها القضية الفلسطينية أو نهر النيل أو الأممالمتحدة أو حركة عدم الانحياز وغير ذلك، كما أسهم خلال توليه قيادة الأممالمتحدة في إصدار الكثير من الكتب والتي تعتبر علامات بارزة في تاريخ المنظمة الدولية والقانون الدولي والعلاقات الدولية. «بطرس غالى والأممالمتحدة» كان بطرس غالى أول عربي وأفريقي يتولى منصب الأمين العام للأمم المتحدة في يناير من عام 1992ولمدة خمس سنوات، ليكون الأمين العام السادس في تاريخ المنظمة الدولية، ويعتبر الأمين العام الوحيد عبر تاريخها الذي يتولى هذا المنصب لفترة واحدة نظرا للحرب الشديدة التي شنتها عليه كلٌّ من الولاياتالمتحدة وإسرائيل. وشهدت الفترة التي تولى فيها غالى قيادة الأممالمتحدة الكثير جدا من الأحداث الجسام على الساحة الدولية، ومنها الحرب اليوغسلافية، ومذابح الهوتووالتوتسى في رواندا خلال الحرب الأهلية التي نشبت هناك خلال الفترة من 1990 – 1993، وراح ضحيتها نحو المليون قتيل، وكذلك الأزمة الصومالية، ومجزرة قانا الأولى بجنوب لبنان والتي نفذتها إسرائيل عام 1996، والتي راح ضحيتها أكثر من 350 من المدنيين اللبنانيين، الذين لجئوا لمقرات الأممالمتحدة للاحتماء بها من القصف الإسرائيلى للبنان ضمن عملية عناقيد الغضب، فلم تتردد تل أبيب في قصف هذه المقرات. ورغم دموية القضايا التي شهدتها الساحة الدولية في السنوات الخمس التي قضاها غالى في قيادة الأممالمتحدة، فإن القضية الأخيرة الخاصة بالمجزرة التي ارتكبتها إسرائيل في قانا واستهداف مقرات ومعسكرات الأممالمتحدة التي احتمى بها المواطنون اللبنانيون المدنيون العزل فقتلت إسرائيل منهم أعدادا كبيرة كانت السبب في خروج بطرس غالى من الأممالمتحدة بعد فترة واحدة فقط، نتيجة التآمر الأمريكى – الإسرائيلى عليه نظرا لتمسكه ورفضه ضغوط الدولتين في عدم تقديم تقرير إلى مجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة، حول المجزرة، يدين إسرائيل، فيما ارتكبت من جرائم بحق الإنسانية، وانتهاك القانون الدولى والقانون الدولى الإنساني، ليكون الأمين العام الوحيد الذي يتولى المنصب لفترة واحدة دون تجديد، لتمسكه بالحق ومبادئ العدالة والإنسانية. وحاولت الدولتان إشاعة أن عدم التجديد له جاء نتيجة موقفه من الحرب اليوغسلافية، ورفضه استخدامَ القوة في ضرب القوات الصربية المعتدية على مسلمى البوسنة والهرسك، ولفشله في السيطرة على مذابح رواندا، انتقاما منه لموقفه، ولإثارة مشاعر المسلمين والعرب والأفارقة حوله، وهى الدوائر التي ينتمى إليها، إلا أن موقفهما ومؤامراتهما كانت مفضوحة ولم تنل منه أو من الموقف الشعبى والرسمى منه، فتقلد بعدها العديد من المناصب التي أضاف إليها الكثير والكثير، منها ترؤس منظمة الفرانكفونية الدولية التي حوّلها من مجرد منظمة تضم الدول الناطقة بالفرنسية تهتم باللغة والثقافة، إلى منظمة دولية لها مواقفها من مختلف قضايا المجتمع الدولى السياسية والأمنية والاقتصادية والبيئية والثقافية، كما تولى بعدها رئاسة المجلس القومى لحقوق الإنسان وسعى خلالها لترسيخ ثقافة حقوق الإنسان والدفاع عن قضاياها، وفق المتاح والمناخ العام السائد حينها. "نقلا عن العدد الورقي..."