انتماؤهم لم يكن من النوع التقليدي، انتماء للأسرة.. للعائلة.. بل كان انتماء للمكان.. للسقف الواحد.. الذي تعاقبت تحته فصول العام تلو العام، كبروا ما بين غرف البيت الذي يجمعهم، ومعهم كبرت أحلامهم، التي أثبتت بمرور الأيام أن فقدان الأسرة الدفء العائلي لا يجب أن تكون نهايته الفشل، بل يمكن – ومتاح إلى درجة الكبيرة- أن يكون النجاح متوافرًا وموجودًا عند خط النهاية.. لا يفصلك عنه سوى خطوات قليلة، وعقبات عدة. «دار الأيتام» السقف الذي احتمى تحته العشرات من ويلات الزمن وتقلباته، القائمون على الأمر لم يكونوا بديلًا للأسرة، لكن يمكن القول إنهم كانوا «رعاة للأحلام»، وهي أحلام أثبت أصحابها أن المجد الأبدي للتطوير والإيمان بالنفس وليس الدعم الأسري فقط، لكن أيضًا دعم النفس بالنفس. رضا.. مهندس تحدى أفكار المجتمع منذ نحو 25 عاما فتح رضا علي، مسئول التواصل الخارجي والسوشيال ميديا بجمعية وطنية الخيرية، عينيه ليجد نفسه مختلفًا عن بقية الأطفال، فبدلًا أن يلحظ وجود رجل وامرأة (أب وأم) وجد نفسه محاطًا بعشرات الآباء والأمهات، في دار رعاية للأيتام بالمعادي، ليس هذا فحسب، لكنه وجد نفسه محاطًا بإخوة ممن وضعتهم الظروف معه في المشهد ذاته، جميعهم قدر لهم أن يكونوا أشقاء في البيت، والحلم أيضًا. سنوات «رضا» الأولى في الدار أو كما يحب أن يطلق عليه «البيت الكبير»، مرت كما تمر الأيام.. الإخوة يكبرون وسط رعاية الآباء والأمهات الذين يتبدلون بين الحين والآخر، «زي أي بيت مصري عادي، بدل ما بيكون عندي أب وأم فقط، لا لديَّ أكثر من أب وأكثر من أم، يمكن كنت بعتبرها ميزة خصنا ربنا وحدنا بيها، اتعلقت بالناس ويمشوا وييجوا ناس تانية، والتعلق بيهم ده كان شوية بيأثر علينا، ويحسسنا بنوع من عدم الفهم والتباس الأمور». الخروج من «البيت الكبير» إلى العالم لا يزال يحتفظ «رضا» بذكريات خطواته الأولى فيه، حيث اختلط بأصدقاء المدرسة ممن ينتمون لبيوت وأسر مصرية، وليس البيت الكبير كما كان يظن أن حياته في الدار مع إخوته هي الحياة الطبيعية التي يعيشها كل طفل في العالم، أي إن كل طفل حتمًا لديه هذا البيت الكبير الذي تربى فيه رضا، بملاعبه ومشرفيه وطباخيه وكل الأفراد المكرسين لخدمتهم وإسعادهم فحسب، «كنت شايف إن ده طبيعي لأي طفل يعيش كده، لحد ما بقيت أخرج للواقع، ولقيت زمايلي في المدرسة مش عايشين كده، وبعضهم كان بيقول يا بختكم ينفع نيجي نعيش معاكم طيب أنتم حياتكم أحسن من حياتنا!. وحتى المتطوعين بييجوا ينبسطوا من الحياة اللي فيها، لذلك أنا بعد نفسي محظوظًا بالناس اللي كانوا بيربونا في البيت خاصة أمي السيدة هيام، اللي بالفعل بعتبرها أمي لأنه لو أمي موجودة بحياتي ماكنتش هتعمل زي اللي هي عملته، جميعهم سعوا إلى أنهم يجعلونا نعيش حياة كريمة زينا زي باقي الأطفال من حولنا». الحياة ليست ملاعب البيت الكبير قطار السنوات حمل «رضا» من محطة الطفولة إلى المراهقة فالشباب، تفتحت الآفاق حوله، وتأكد أن الحياة ليست فقط في ملاعب البيت الكبير والحديقة الملحقة به، توسعت أحلامه وتعشقت مع طموحات إخوته، فبحثوا عمن يساعدهم فتتحول هذه الأحلام إلى واقع ملموس، فكان برنامج «فرصة» الذي أسسته الجمعية - البرنامج يهدف إلى رسم خريطة مستقبلية لطموح كل شاب يتيم في الدار، من خلال وضع خطة مدتها 15 عاما، «خلال العمل في البرنامج ده، بدأت رسم خطة لأحلامي كان عندي حلم أكون مهندسا، وارسم خطة مستقبلية لمدة 15 سنة قادمة، هدخل جامعة كذا وهتعلم كذا، وأكون علاقات بالمهندسين يعطوني خبرات لما سأكون عليه فيما بعد، رسمت خريطة متكاملة بطموحاتي، وفضلت ماشي على الخريطة دي». «أنا طلعت من الدار عندي 20 سنة في سن الرعاية اللاحقة، وخلصت هندسة جودة وكنت بشتغل مع الدراسة»، بين العمل في أحد المخابز أو كفرد أمن في إحدى الشركات، مضت سنوات دراسة «رضا»، كان حينها يحصل على دورات تدريبية عدة توفرها له الجمعية، مثل دورات الإخراج والمونتاج والتصوير الفوتوغرافي، ثم بعدها عمل في مجال المبيعات بأحد المحال التجارية الكبرى ومنها إلى معرض أثاث. «بعد التخرج مباشرة رجعت تاني وتحديدا سنة 2015، ميلت أكثر للعمل المجتمعي التطوعي وأقرب أكتر من الشباب اللي تربوا في نفس ظروفي وبعدت عن البيزنس تمامًا، وتفرغت للعمل كأخصائي تواصل في الجمعية، وموجود بشكل دائم في النقاشات اللي أقدر أساعد فيها وأمرر خبرتي والتجارب التي مررت بها خلال فترة حياتي في دار الأيتام». برامج توعية من خلال عمله كأخصائي تواصل خارجي في الجمعية، تولي مهام تطوير صفحة الجمعية على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك»، أسس بعدها مع بعض الأعضاء قناة على موقع «يوتيوب» تختص بتقديم البرامج التوعوية بالشباب الأيتام في مصر. أصبحت قضية الأيتام المصريين هي القضية الأهم في حياة «رضا»، وضع على كاهله مهمة الوصول إلى كل يتيم في مصر والاستماع له وتقديم النصائح والخبرات من أجل إعادة تأهيله نفسيًا «بغير وجهة النظر المجتمعية تجاه شباب الأيتام في مصر، وخلال الورش اللي أخذتها في فرصة، وبدأت أنمي نفسي في الموضوع، بقت مسئوليتي المجتمعية إني أساعد غيري، ورسخت في ذهني مفهوم إنك لازم تدي ولا تأخذ فقط، لأننا اتربينا إننا ناخد وبس، حتى لو موصلهواش لينا بشكل مباشر، مكنش في دماغنا إننا ممكن يكون عندنا حاجات تقدر تديها للمجتمع، كان كل همي أوصل لكل يتيم في مصر، بقيت بتكلم مع الناس وأوعيهم بالشباب الأيتام واحتياجاتهم الحقيقية، والأطفال إزاي نطور جودة الرعاية الخاصة بهم، والجمعية ساعدتنا يكون صوتنا مسموع عند صانعي القرار في وزارة التضامن الاجتماعي، وعملنا ورش عمل داخل الوزارة، ووضعنا في الوزارة خطط ومعايير تربي الطفل بشكل سليم، وتم تكريمي من مكتب الأممالمتحدة كأفضل 3 تجارب تطوع سنة 2015». تغريد.. الحلم المرسوم على لوحة عاشت وتربت في دار للأيتام، لم تكن أبدًا لتشعر أن ثمة مشكلة في كونها يتيمة، مارست حياتها بشكل طبيعي جدا، بين الاجتهاد والمثابرة، وكان الرسم موهبة «تغريد أحمد» صاحبة ال25 ربيعًا منذ نعومة أظافرها. «تغريد» لم تلتفت لأسئلة المجتمع المحطمة «من والديك؟ كيف تربيت؟...» وغيرها من الأسئلة التي تعطل كل من لديه رغبة حقيقة في تكوين الذات، واستمرت في طريقها حتى تمكنت من التفوق الفعلي في مجال الرسم، وخوض والعديد من المسابقات والفوز ببعضها. مستشفى للأطفال في عمر الرضاعة، وسط 7 فتيات، كانت بداية «تغريد»، عاشت بها لمدة عامين، حتى التحقت بعد ذلك بإحدى دور الأيتام بمحافظة الإسماعيلية، ومرت السنوات لتلتحق بالمرحلة الابتدائية وسارت الدراسة بشكل عادي وبسيط، لم يعكر صفوها سوى أسئلة من نوعية «أنت أهلك فين، أنت اتربيت في ملجأ؟!»، لكنها لم تلفت كثيرًا للقيل والقال، واستمرت حتى التحقت بمعهد المنشآت البحرية، ودرست بالجامعة المفتوحة الفنون الجميلة بعد ذلك. رفض المجتمع رفض المجتمع كان أبرز الأزمات التي واجهت«تغريد»، بعد أن عاشت قصة حب مع شاب، لكن الأهل لم يرحبوا بالعلاقة، وعملوا على انتهائها فورًا، مارست إحدى مديرات الدار الاضطهاد مع الفتيات في البداية. لم تكن لتتمكن «تغريد» من تجاوز مرحلة الأسئلة المحزنة تلك لولا وجود صديقتها المقربة «هبة» بجانبها بتلك الفترة، حتى تغيرت الإدارة ورحلت المديرة وجاءت بدلًا منها مديرة أجادت التعامل معهم، وهو ما يفتقد الأيتام بالدور «أكتر حاجة بنبقى محتاجينها إن المشرف أو المدير يكون قريبا مننا وطيب التعامل، لأننا بنكون محتاجينهم»، كان تخشى «تغريد» في البداية أن تعترف أمام المجتمع أنها فتاة يتيمة، لكنها واجهت ذلك الآن بنجاحها في مجال الرسم، وشاركت في أول معرض لها، بقاعة المعارض بكلية الفنون الجميلة، وباعت الكثير من لوحاتها وسط إعجاب الزائرين، وتمكنت من بيع 90% من لوحاتها، وتستمر في مشوارها حتى تصل لوحتها للعالم أجمع. "نقلا عن العدد الورقي...."