هل تذوقت للنار طعما؟ هل شممت للنار رائحة؟ هل شعرت بها تتوغل داخل أعماقك لتصبح منك وإليك؟! قد تكون الأسئلة غير منطقية ولا يقدر العقل على استيعابها، ولكن شئنا أم أبينا فهى موجودة فى منطق الحياة، فهناك أناس يحيون بها ومعها. المكان: إحدى مقاهى وسط البلد الساعة: العاشرة مساء شكل الساعة محدد عليها الوقت "قبل ما نكمل بقية ألعابنا هشوف رزقى ورزق عيالى من الناس الطيبين" هذه هى العبارات التى أنهت بها "رضا" عرضها النارى الممزوج بالمخاطر، حيث بدأت تطوف حول طاولات الجالسين على المقهى لعل أحدهم يجود عليها ببعض المال. "رضا" من مواليد القاهرة، فيومية الأصل، تخرج ليلا من بيتها الكائن بمنطقة الحوامدية وهى إحدى الضواحى المتطرفة بمدينة الجيزة. فور انتهاء الوردية الأولى من عملها فى الحياة حيث أنها زوجة وأم لولدين "وليد" سادسة ابتدائى، و"سيد" ثالثة ابتدائى. فقد اعتادت على تركهما ليلا آخذه معها عدة الشغل التى تتكون من جركن الجاز الذى تشتريه من أحد المحال القريبة من مسكنها وسيخين من الحديد ملفوف على رأس كل منهما قطعة من القماش لامتصاص الجاز. تخرج باحثة عن قوت أطفالها الذى تكسبه يوما بيوم، وذلك بعد عودة أبيهم قبيل المغرب، الذى يجوب هو الآخر شوارع الجيزة ممسكا "بطبلته" التى يروى على كل دقة منها حكاياته وأغنياته الشعبية، ويا سعده وهناؤه إذا عثر على فرح شعبى أو تنجيد عروسة. عزمت "رضا" على مكافحة ومطاردة شبح الفقر الذى يهدد حياتها وحياة أسرتها بما هو أقوى منه اللعب بالنار. تتلمذت رضا على يد والدها وعمها، فكانا خير معلم لها، فقد كانت تخرج بصحبتهم وعمرها لا يتعدى الثالثة عشرة، يجوبون الموالد واحدا وراء الآخر"كعب داير" بدءا بالصعيد ومرورا بالدلتا إلى أن تصل بالسويس لتعاود رحلتها من جديد. "تمسك النار ولا تتحرقش.. وتذوق النار ولا تتلسعش" فلا تتخيل عزيزى القارئ أن هذا الأمر بالسهل اليسير فلكل لعبة قواعد، فإذا أخطأت فعليك تحمل النتائج وحدك، لا تجد من يقاسمك فيها. وبذلك تحفظ رضا هذه القواعد عن ظهر قلب، فتقف فى وسط الطريق وكأنها "أنيمومتر أو باروميتر" لتعاين سرعة واتجاه الريح، حيث ذكرت أن الرياح هى عدوها اللدود فإذا غفلت عنها أو أخطأت فى تقدير حساباتها فسرعان ما تلتهم النيران جسدها ولا تقوى على ردعها فى تلك اللحظة. ولشرب الجاز أيضا قواعد؛ فإذا حدث وابتلعت منه بعض القطرات تقوم بشرب كوب أو أكثر من الحليب. تبدأ رضا الشغل بكتم أنفاسها وأخذ القليل من الجاز فى فمها، ثم تعاود بخه فى الهواء على لهب السيخين، وفى هذه اللحظة ترى نيران حامية تخرج من فمها وكأن جوفها ينفس عما فيه من لهيب الفقر الذى اكتوت بناره منذ أن ذاقت مرارة لقمة العيش. وتصبح "رضا" امرأة عبوسا شقية أسيرة تحت وطأة النار التى عاثت بوجهها آخذه بين شظاياها جمال شبابها. بعد أن أتمت "رضا" عرضها النارى تطوف بجمهور المشاهدين تستندى أكفهم وتجمع منهم ما تجود به أنفسهم ثم لملمت عدتها وأدواتها وانطلقت فى سبيلها مناجية الله أن يفتح لها بابا آخر من أبواب الرزق.