لم أكنْ ناصريًّا في يومٍ ما ، وفي يقيني أنني لن أكونَ مهما يطُل العمر ، ومهما أعاصر من رؤساء ناصريين أو برّمائيين ، وكم جاهرتُ بانتقادي خطايا عبد الناصر وأخطاءه الفادحة ، فقد كانَ كبيرًا وضخمًا في كلّ شيءٍ ، في أحلامه وطموحاته ، وفي إنجازاته التي أنجزها ، وفي عروبته وانتمائه القومي ، وفي خطاياه وأخطائه التي نسفت جُلّ ما حلُم به وطمح إليه ، وشوّهت جزءًا كبيرًا مما أنجزه ، وأورثتنا الجراح والديون وعاهة الهزيمة التي لم تمحها انتصارات أكتوبر بضخامتها وصداها على المستوى السياسي أو العسكري ، فقد ظلّت هذه الانتصارات ، وستبقى ، مجرّد ردّ اعتبار ودليل قاطع على أن مصرَ لم تمت ، وأنها بداية الخلود ومنتهاه ، وأنها بألف روح تنتفضُ من تحت التراب عندما يظن أعداؤها أو خائنوها أنهم أجهزوا عليها وأماتوها إلى الأبد . أعطى الله جمال عبد الناصر جمالا إنسانيًّا فوق الحدّ ، ومنحه بسطةً في الحضور والقبول ، أعطاه جمال الشكل وهيبته ( الكاريزما ) ، وأفاض عليه بما يليق لي أن أسمّيه « كاريزما الصوت « لتكتمل الصورة وتتوهّج ، فبالرغم من أنه لم يكن يملك صوتًا قويًّا أو جهوريًّا أو جعجاعًا مجلجلاً بما يتناسب وطوله وشكله وبريق عينيه وبنيانه العام ، إلا أنه كان صوتًا آسرًا معبّرًا يملك على الإنسان كيانه كله حتى ولو كان من الأعداء والمتربّصين ! وكم من قرارات مصيريّةٍ قاسيةٍ حاولَ أن يكونَ صوته ضخما ومخيفا وهو يعلنها أو يتحدّث عنها ، فخانه الصوت ولكن لم يخنْهُ التأثير ، أي : وصلَ ما يريد توصيله فقد كانت الأشعة التي تهطل من عينيه كافية لصهر الحديد وبث الرعب في قلوب الذين يعنيهم بالتهديد والوعيد ، وفي المقابل بث الثقة والطمأنينة في قلوب مريديه ومؤيديه من مواطنيه ومن غيرهم . مأساة عبد الناصر الكبرى أنّه لم يُحسن اختيار الذين حوله ، كان كمَنْ يربّي الذئاب ويطعمها بيديه ظانّا أنها ستغادر طبعها الغادر وتتحوّل إلى حملان أو كلابٍ أليفة مستأنسة ، لكن الغرائز الذئبويّة غلبت قيم الوفاء ، وغُرِّر بالزعيم فنام في العسل نوما هائنا هادئا ملتحفًا مانشيتات هيكل وأغاني أمّ كُلثوم وعبد الحليم وصولا إلى محمد رشدي وأبو دراع ومحمد طه ومحمود شكوكو وعمر الجيزاوي ، أي .. كلّ ألوان الطيفِ الغنائي وبكلّ مستوياته ، وللأسف .. فقد صدّق الأغاني ( التي مهما تكن صادقة فهي خيال شعراء ) ولم يصدّق الواقع ، أو لم يتعامل معه بما يليق به وبما يحمله من تحدياتٍ ومفاجآت . بكاريزماه الآسرة ، وبأحلامه الأكبر من العمر ، وبشجاعته وجسارته وعنفوانه ، زرع عبد الناصر كلّ الطموحات في ضمائر كلّ المصريين ، ومعه عرفوا معاني العزة والكرامة والشرف ، وبدأوا البناء والتعمير وإنشاء المصانع والمشروعات الوطنية الكبرى ، ولم يشذ عن الصف سوى فلول كل عصر ، والمنتفعين بخزانة السلطان ومظلة حمايته ، يُضاف إليهم تلك الجماعة المحظورة التي تعيّرنا بأنها دفعت الثمن وحدها على مدار ثمانين عاما ! ثمن ماذا ؟ لا أعلم ! بماذا ضحت هذه الجماعة من أجل مصر وماذا قدّمت لها ؟ لا أرى شيئًا ، ولم يخبرني أحدٌ بما قد رأى ! دخلوا السجون أفواجًا أفواجًا لأنهم كانوا يتآمرون من أجل مصالحهم وليس من أجل الوطن ! كانوا يتمسّحون في الدين ، والدين منهم براء ، ولم تكن لديهم سوى صناعة واحدة يجيدونها وهي صناعة المؤمرات ، ولو سُمِحَ لهم بتصديرها إلى الخارج لحصلنا على مراكز خيالية على رأس القائمة العالميّة ، أولئك الذين لم يقدّموا شيئًا للدين يدّعون أنه لولاهم لما استمر هذا الدين ، ولا أدري كيف ؟ أو ماذا جرى ؟ وماذا فعلوا ؟ الذي حافظ على ديننا وجعله يغالب الزمن ويتجدد فيه هو أنّه دينُ الله أولا ثم وجود الأزهر الشريف ، منارة الدنيا والدين بحقّ ، برجاله وعلمائه الأفذاذ الذين لا يخشون في الحقّ لومة لائم ، ولا يميلون أو يتاجرون بكتاب الله العظيم ، علماء الأزهر الشريف همّ النور الذي سطع على الكون من قلب القاهرة ، ليحمل النور الأسمى إلى كلّ بقاع الدنيا ، ومصرُ هي الحصن العظيم الذي صان حدود هذا الدين وناصره ونصره ، ودائمًا ما أردد ما قلتُه قبل أكثر من عشرين عامًا :» إنّ اللهَ أعزّ الإسلام بالعُمَرَينِ في حياة النبي ، وأعزّه بمصرَ وأزهرها الشريف بعد مماته صلّى اللهُ عليهِ وسلّم «، فهذه الجماعة بريئة من أية تضحيات من أجل الوطن ، كما أنها بريئة من أية تضحيات من أجل الدين ، وهي التي أضمرت العداء لعبد الناصر بأشدّ مما أضمره الإسرائيليون ، فلماذا « احلوّ « عبد الناصر الآن ؟ ولماذا تبدّلت لهجة الخطاب وتغيّرت مائة وثمانين درجة ؟ كان عبد الناصر حاضرا في ميدان التحرير طوال أيام الثورة ، الثائرون ناقمون على عصر السادات بفعل « المخدّرات الفكريّة « التي حدّثني عنها السبّاك الذي قد يفهم في كلّ شيء إلا السباكة ، وهم أنفسهم الثائرون على حسني مبارك وشركاه ، ولأن عصر عبد الناصر كان بداية العنفوان المصري الحقّ وفوران المشاعر بالمعاني الكبرى ( على الأقل في بداياته وقبل الدخول في المغامرات العنترية إياها ) ، فقد وجد فيه ثوّار يناير ما يتماس مع أحلامهم وفورانهم ، فأعادوه إلى الميدان ... بشعاراته ونداءاته ، وبالأغاني التي رشقها الشعراء والملحنون والمطربون على جنبات اسمه وعصره حتى أغنيات ما بعد الهزيمة النكراء التي دلّعها الأستاذ هيكل وأسماها النكسة ( وتباهى بذلك من دون أن يحدّثنا عن دوره في صنع الهزيمة المدللة ) ، هذا الحنين إلى ناصر وعصره دفع أحد المرشحين لرئاسة الجمهورية إلى الإعلان صراحة بأنه يسير على خطاه ومبادئه ، وبهذا المخدّر الموضعي استمالَ عدّة ملايين منهم عدد لا يُستهان به من ساكني الماضي الذين لا يريدون أن يبرحوه ، والعدد الأكبر من أبناء المستقبل الذين رأوا في عبد الناصر البطل الحقّ ، والرمز المجسّد لكل الأحلام والطموحات التي قامت من أجلها ثورة يناير ، حتى ولو كان قد تركنا مهزومين نترنّح بين عار الهزيمة ووطأة الديون ( وعندهم كلّ الحق ، فالعيب لم يكن فيه ولا في المبادئ التي أرساها ، ولكن في الذئاب الذين خانوه وحفروا له الحفر ليقع فيها ويجرّ الوطن معه ) ، وبينما الناس في أحلامهم هائمون ، انقشعت السحابة الانتخابية بعد أن أمطرت نتيجةً لم يتوقعها أحد ، أفضت برئاسة الجمهورية إلى الدكتور محمد مرسي المنتمي إلى جماعة الإخوان التي لا تطيق لعبد الناصر ذكرًا بالرغم من وجوده تحت الأرض منذ أول اكتوبر 1970 م ! وإن كان شعبنا العظيم في مقدمة الشعوب التي تصنع الطعميّة وتجيد النسيان ، فإن أحدًا منّا لن ينسى تنهيدة السيد الرئيس محمد مرسي ثم إطلاقه فيما يشبه الزفرة الملتهبة الممتلئة بالبارود : « الستينات .... وما أدراك ما الستينات « ،ويعني بذلك ما لقيته الجماعة من عنت وتعذيب على أيدي زبانية نظام عبد الناصر ، وكأن أبناء الجماعة فقط هم الذين نكّل بهم ذلك النظام ، فهل كان اليساريّون من الشعراء والكتّاب وأهل الفكر مُعتقلين بسبب ضبطهم متلبّسين بسرقة البيض من عشش فراخ توابع مجلس قيادة الثورة ؟ هل كان أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام وشهدي عطية و......... ألخ .. مُعتقلين في عصر أمنمحات الثالث أم في عهد جمال عبد الناصر الذي آخى في معتقلاته بين جميع المصريين من إخوان مسلمين وإخوان مسيحيين وإخوان من اليمين وإخوان من اليسار وو.... ، الأغرب من ذلك ( والذي فات على كلّ المحللين الاستراتيجيين الذين سكنوا الفضائيات ) هو أن السيد الرئيس محمد مرسي في احتفالية السادس من أكتوبر الشهيرة التي شهدها الآلاف من أتباع الجماعة على أرض ستاد القاهرة ، ظلّ السيد الرئيس يخطب ويعيد ويزيد ويتحدث عن تاريخ مصر وعظمتها ووو ..... وبالرغم من ذلك لم يذكر اسمًا واحدًا من أبطال تلك الحرب ! لم نسمع اسم عبد الناصر الذي أدار المعركة ( من أول وجديد ) ودماء شهدائنا لم تجف بعد ، وأعني حرب الاستنزاف التي أنهكت العدو ، وأعادت الثقة إلى قلوب رجالنا ، ولم يذكر اسم الرئيس السادات قائد الحرب البطل الذي زلزل الأرض تحت أقدام الصهاينة وأعوانهم وأذاقهم مرار الهزيمة وقهرها وعارها ، لم نسمع اسم الشاذلي ولا عبد العاطي ولا ولا ..... ، فلماذا يحضر اسم عبد الناصر فجأة على لسان السيد الرئيس في عيد العمال الأخير ؟ لن أعود إلى ما قاله البرمائيون والاستراتجيون والأبواق الإخوانجية وتوابعهم من المبرراتية ، ولكنّ نفسي الأمّارة بالسوء تقول إنها محاولة جديدة لتمزيق جبهة المنحازين لعبد الناصر باستمالة بعضهم من أجل لعبة الانتخابات البرلمانية ، فمثلما ارتدى أحدهم جلباب عبد الناصر في الانتخابات الرئاسية وحصد به ما لا يُستهان به من الأصوات ، فمن الممكن أن نجعله موضة يرتديها كلّ مرشحي الحريّة والعدالة مع إضافة ما تقتضيه بيئة كلّ مرشح ، طاقية ، لاسة نايلون ، طربوش بزرّين ، عِمّة ، سروال بمبوطي ... وهكذا ! عبد الناصر لن يعود ، وآهِ لو كان موجودا ، هل كان سيسمح بما جرى حول مدينة الإنتاج ؟ أو حصار المحكمة الدستورية ؟ أو حصار قصر الاتحادية والشخبطة على جدرانه ؟ هل كان سيصمت على مواطن يبعثر الإهانات يمينا ويسارا ويعتدي على اسم وزير الدفاع ويقود حارقي مقار الصحف ومروّجي الشائعات والبذاءات ؟ هل كان سيصمت وكل هذه الأعداد تتساقط ، والسلاح يصبح مباحا والحصول عليه أسهل من الحصول على حزمة جرجير ؟ إنّ نظرةً واحدة منه ( ناصر ) لكفيلةٌ بأنْ تورث كل مغرور أو متطاول عادة التبوّل اللاإرادي ، ولو أن وزيرا لداخليته تقاعس كل هذا التقاعس وترك الوطن سداح مداح لعصابات النشل والقتل والترويع لربطه بكلابشات في ميدان عام . عبد الناصر ، بكلّ خطاياه وأخطائه ، قيمة من القيم العظمى لهذا الوطن ، ومن المؤلم أن نرى جلبابه يتمزّق ويتمرمط في هذه العروض الانتخابية الوهمية الفاشلة ، ذهب الرجل بما له وما عليه ، فلنتركه يهنأ بموته ، ومَن يُرد أن يبني سنصفق له ونمد أيدينا ، ولكننا لم نعد نعرف إلا ثقافة التخريب والتجريف والاستهانة بالوطن وبالمواطنين ، قوانا معطّلة ، وأيادينا خارج نطاق الخدمة ، وعقولنا في إجازة مفتوحة ، والنكتة أصبحت قديمة و.... بايخة !!