الأعلى للجامعات يعتمد قواعد تنسيق القبول بالكليات الحكومية والمعاهد    البابا تواضروس يتلقى تقريرا عن الخدمة في إيبارشية اليونان    السفينة والرُّبان.. لماذا احترام النقيب واجب على الجميع؟!    خبير أسواق مال: خفض أسعار الفائدة يعزز شهية المستثمرين فى سوق المال    التحفظ على جرار بمقطورة لإلقائه مخلفات هدم بالطريق العام فى الدقهلية (صور)    وزراء خارجية عرب يعلنون تأجيل زيارتهم إلى الضفة الغربية    الأهلي يتواصل مع الخلود السعودي لقيد أليو ديانج في قائمة المونديال    الهلال الأحمر: إنقاذ 34 شخصًا عالقًا في المناطق المتضررة من سيول الإسكندرية (صور)    رفع جلسة محاكمة المتهمين في انفجار خط غاز الواحات لإصدار القرار    الحزن يخيم على والد ضحية سيرك طنطا بعد تأجيل محاكمة أنوسة كوتة (فيديو)    صحة الشرقية تنفذ حملة للتبرع بالدم بمستشفى فاقوس المركزى    استخراج بطارية من مريء رضيع ببنها    ماذا يأكل الحجاج؟ بعثات الحج السياحية تشارك في جلسة «تذوّق الوجبات»    محافظ المنيا: توريد 483 ألف طن قمح منذ بدء موسم 2025    البيان الختامي لاجتماع وزراء خارجية مصر وتونس والجزائر بشأن ليبيا* (آلية دول الجوار الثلاثية) القاهرة 31 مايو 2025    المدير التنفيذي للهلال الأحمر: استنفار كامل في الإسكندرية لمواجهة السيول    «السكوت عن سرقتها خيانة».. بهاء حسني يرد على بيان جمعية المؤلفين والملحنين بعد أزمته مع حسين الجسمي    أوبك + تقرر زيادة الإنتاج بمقدار 411 ألف برميل يوميا في يوليو    صراع البقاء في دوري المحترفين.. 4 فرق يتنافسون على الهروب من المقعد الأخير    250 مليون نحلة طليقة في الهواء بعد انقلاب شاحنة.. ماذا حدث في واشنطن؟    محافظ الدقهلية يتفقد المركز التكنولوجي بمركز أجا ويصدر 7 توجيهات    القاصد وأبو ليمون يستقبلان وزير التعليم العالي خلال زيارته للمنوفية    إنريكي يثق في قدرة سان جيرمان على تحقيق اللقب الأوروبي    الكنيسة تشارك في حملة صكوك الأضاحي بدمياط    القاهرة الإخبارية تكشف آخر تطورات الوضع في غزة    محافظ المنوفية يشهد الجلسة الافتتاحية للمجلس الأعلى للجامعات    نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الصحة يتفقد مستشفى وادي النطرون التخصصي بالبحيرة    ترامب يرفع الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألومنيوم إلى 50%    تسجيل إصابات من الجانبين بعد الهجمات الأخيرة في روسيا وأوكرانيا    الصحة: الكشف على 15 ألف حاج مصري وتحويل 210 حالات للمستشفيات السعودية    سحب 700 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    إسرائيل تمنع وفدًا وزاريًا عربيًا من لقاء عباس    لازاريني: المجاعة في غزة يمكن وقفها إذا توفرت الإرادة السياسية    وزير المالية: الإعلان عن برنامج جديد للمساندة التصديرية خلال الأسبوع المقبل    خمسة في عين الحسود.. حكاية أمينة خليل بمايو بين الجوائز والحب والتألق في كان    غياب "ضحية النمر" عن أولى جلسات محاكمة مدربة الأسود.. والده يكشف التفاصيل    انطلاق التسجيل في الدورة الثانية لمهرجان VS-FILM للأفلام القصيرة جدًا    تكريم شيري عادل في ختام مهرجان القاهرة للسينما الفرانكوفونية    الرئيس السوري أحمد الشرع يجري زيارة رسمية إلى الكويت غدا    صفقات الأهلي الجديدة تظهر في مران الفريق اليوم لأول مرة    عادل عبدالرحمن: الأهلي يحتاج لهذه الصفقات قبل كأس العالم للأندية    محافظ الدقهلية في زيارة مفاجئة لعيادة التأمين الصحي بجديلة    «المشروع X».. العمق أم الإبهار؟    ثروت سويلم: بحب الأهلي ومنظومته.. وبتمنى الأندية تمشي على نفس النهج    إصابة 7 عمال فى حادث تصادم بكفر الشيخ    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    طفل المرور بعد 5 سنوات.. يحطم رأس صديقه ب«عصا البيسبول»    وزير العمل يؤكد حرص مصر على تعزيز التعاون مع صربيا في كافة المجالات    نتيجة الصف الرابع الابتدائي 2025 بالشرقية وخطوات الاستعلام برقم الجلوس (الموعد و الرابط)    دعاء المطر والرعد كما ورد عن النبي (ردده الآن)    "ليس جمهور الأهلي".. إمام عاشور يعلق على لقطة إلقاء الزجاجات على كولر    أفضل دعاء في العشر الأوائل من ذي الحجة.. ردده الآن للزوج والأبناء وللمتوفي ولزيادة الرزق    جراديشار: شاركت في مباراة بيراميدز ولم أكن أعرف أسماء لاعبي الأهلي    موعد أذان فجر السبت 4 من ذي الحجة 2025.. ودعاء في جوف الليل    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 31-5-2025 في محافظة قنا    تغييرات مفاجئة تعكر صفو توازنك.. حظ برج الدلو اليوم 31 مايو    الجماع بين الزوجين في العشر الأوائل من ذي الحجة .. هل يجوز؟ الإفتاء تحسم الجدل    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات الأخرى اليوم السبت 31 مايو 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فرانسوا باسيلى يكتب: أحزان الجماعة
نشر في التحرير يوم 11 - 09 - 2013

لا تعكس ملامح بديع ما يدور فى رأسه أو وجدانه.. ووجهه بدا جامدا محايدا لا يشى بما يعتمل وراءه رغم الرفض لما يمثله المرشد وجماعته فلا بد أنه يعانى من شعور بحزن وجودى مزلزل
جلس الدكتور محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين صامتا ليس على وجهه أى ملمح لمشاعر واضحة فى الدقائق التى ظهر فيها فى الفيديو الذى صوِّر له بعد إلقاء القبض عليه، رحت أتأمل ملامح الرجل محاولا استشفاف ما يدور فى رأسه أو وجدانه، ولكن وجهه بدا جامدا محايدا لا يشى بما يعتمل وراءه، ورغم رفضى الكامل لكل ما يمثله الرجل وجماعته فإننى شعرت نحوه بالرثاء بشكل إنسانى بحت، فلا بد أن الرجل يعانى من شعور هائل بالحزن الوجودى المزلزل، فهو ليس فقط قد فقد فجأة، وفى لحظة، حلم عمره وحلم جماعته التاريخى الذى انتظروه أكثر من ثمانين عاما، وكان قد تحقق لهم بشكل مذهل، وهو حكم أكبر دولة عربية وبداية إعادة تشكيل المنطقة لتحقيق حلم إعادة الخلافة الإسلامية، وهم على رأسها، لم يسقط فقط هذا الحلم المدهش فجأة، بل سقط معه الرجل من موقعه الذى ظل يحكم منه مصر بالوكالة لعام كامل ظن أنه سيمتد ليصبح سنوات، بل عقود عديدة، ولكن الرجل قد فقد منذ أيام نجله عمار محمد بديع الذى توفى أمام مسجد الفتح بعد تبادل لإطلاق النار بين المعتصمين داخل المسجد وقوات الأمن. مأساة الرجل إذن هى مأساة عامة وخاصة فى نفس الوقت، يفقد حلم عمره الدينى- السياسى ويفقد نجله فى نفس اللحظة، وفى نفس المعركة الخاسرة، وتسقط أيضا بالرصاص أسماء محمد البلتاجى الابنة الوحيدة للقيادى البارز فى الجماعة محمد البلتاجى، بينما يتوالى القبض على معظم القيادات العليا والوسطى للجماعة وقد تفرقت هاربة فى كل اتجاه داخل القاهرة وفى مشارق مصر ومغاربها، بالإضافة إلى سقوط المئات من أنصار الجماعة فى مواجهات دموية مع الأمن فى الأيام القليلة السابقة.
حزن السقوط
إنها مأساة لا تكاد تضاهيها تراجيديات شكسبير بكل ما فيها من صراعات ومؤامرات وخيانات ونهايات فادحة، بل هى مأساة يمكن مقارنتها بالتراجيديات الإغريقية وأساطيرها الدرامية المحتدمة، هى الكوميديا الإلهية لدانتى أو هى جحيمه الذى يتحقق بأبعاده الدرامية الدموية الهائلة، فما حدث للجماعة فى مصر هو فى كل الأحوال وبكل المقاييس مصيبة لا مثيل لوقْعها وهوْلها، لا شك سينظر إليها الرجل وجماعته باعتبارها أعظم محنة يمكن أن يبتلى بها الله عباده، فهى ضربة تأتى من الأرض ومن السماء معًا، لتزلزل أركان معبد الإيمان الذى يلوذ به كل مؤمن، فلا بد أن الرجل ومعه كل جماعته يتساءلون: كيف يرضى الله سبحانه بهذا القدر الهائل من آلام السقوط والتقويض والانهيار من أعلى عليين لجماعة كان كل حلمها هو إعادة أمجاد الخلافة الإسلامية وإعلاء راية الإسلام الحق فوق العالمين؟ كيف يخذل الله من آمن بمثل هذا الحلم العظيم وتحمل فى سبيله آلام السجن والملاحقة والتشريد والتعذيب من النظم المختلفة فى مصر على مدى أكثر من سبعين عاما؟ أى ابتلاء عظيم هذا الذى يبتلى به الله عباده؟ ولماذا؟ بل كيف يسمح الله العادل الرحيم بأن تسقط الجماعة هكذا فى أعظم محنة تنزل بها فى تاريخها الملىء بالمحن المزلزلة، وبعد أن كانت قد قطفت أخيرا ثمرة سنوات العذاب والإقصاء والاعتقال والاضطهاد فدانت لها مصر الكنانة بكل ما فيها ومن فيها؟
لا بد أن هذه التساؤلات كانت تعصف بعقل وقلب المرشد العام، وهو يجلس صامتا، وحيدا، أمامه زجاجة مياه وكوب عصير قدمه إليه من قاموا «بأسره»، بلغة الجماعة، يحيط به العشرات من أعدائه، وليس من اعتاد عليهم من عشرات المحبين الطائعين له من أعضاء جماعته، لا بد أنه لا يكاد يصدق ما جرى له ولجماعته فى الأسابيع القليلة الماضية، بل فى العامين الماضيين بكل ما فيهما من خطوات النجاح المذهل الذى حققته الجماعة أولا فى دخولها مجلس الشعب بهذا الشكل القوى الذى أثبت تأييد الجماهير لها، ثم فوز مرشحها برئاسة الجمهورية فى لحظة تاريخية لم تكن الجماعة لتتصورها إلا فى الأحلام، وقيام الرئيس الإخوانى بالتخلص السريع والسهل من قيادة المجلس العسكرى التى بدت كأنها تشاركه الحكم، ثم الصعود السريع المضطرد للجماعة فى خطواتها الثابتة نحو التمكين لها فى الاستحواذ على أهم مفاتيح ومفاصل الدولة المصرية سواء فى الوزارات أو المحليات أو المؤسسات والهيئات، ومنها ما كان محرما عليها الاقتراب منه طول الوقت مثل الجيش والشرطة والمخابرات، هذا كله وسط أجواء ترحيب، بل تهليل عالمى، أمريكى واضح وجلى، حتى إن مجلة ال«تايم» الأمريكية الأشهر كانت تنوى اختيار مرسى كرجل عام 2012 ولكنها اضطرت فى أخر لحظة إلى تغيير اختيارها بعد أن قام الرئيس المصرى بإعلان دستورى وصفته المعارضة بأنه ديكتاتورى منح به نفسه كل السلطات وحصن به قراراته ضد أحكام القضاء، ومع ذلك اختاروا الرجل من بين الخمس شخصيات الأهم فى العالم لذلك العام.
حزن الخيانة
لا بد أنها أحزان هائلة، تلك التى تعصف بالرجل وجماعته، ومما يزيد من وجعها بلا شك هو الشعور بأن ما حدث لهم كان بسبب ما يرون أنه خيانة من الفريق السيسى وزير الدفاع، ففى المواجهة الفاصلة بينه وبين الرئيس المعزول مرسى قال مرسى للسيسى: أنا الذى أتيت بك! وكأنه يستعيد كلمات يوليوس قيصر وهو يترنح هاويا وخنجر قائده وزميله بروتس يغور فى قلبه فينظر فى عينيه سائلا فى استنكار تناقلته العصور من بعده: حتى أنت يا بروتس؟ هكذا سينظر الرجل وجماعته إلى محنتهم الجديدة، وهكذا سيدخلونها فى أدبياتهم التى سيحفظها كل من يجىء بعدهم فيزداد بذلك توهج فكرة الاستشهاد التى تشتعل براقة فى فكر وتاريخ الجماعة تضمن بها استمرار الشحن العاطفى الذى تجذب به أنقى الشباب ليدخل فى طاعتها ويقسم على أهدافها، ولكن أدبيات الجماعة هذه لن تحفظ العبارة الخطيرة التالية التى قالها مرسى للسيسى: أمريكا مش حاتسيبكم، وبهذا يعترف من كان رئيس مصر أنه كان يعتقد أن بقاءه فى منصبه مرهون برضا القوة الأعظم فى العالم وأن كل رهاناته كانت على هذه القوة وليس على شعب مصر، فالرجل لم يقل للسيسى الشعب مش حايسيبكم.
لقد حدثت خيانة إذن، لكنها لم تكن خيانة من السيسى لرئيسه، فولاء الجيش الأول هو للوطن وليس لشخص الرئيس وجماعته، فالسيسى والجيش المصرى تصرف على أعلى قدر من المسؤولية والانتماء الوطنى الحار حينما اصطف إلى جانب الشعب، من خان هو من أسند ظهره عبثا وجهلا على قوة خارجية تعاقد معها لمصلحة جماعته على حساب مصلحة مصر، هى إذن خيانة وطنية من أعلى مسؤول فى الدولة لا مثيل لها فى تاريخ مصر، فحتى الملك فاروق وهو من أصل غير مصرى كان خصما للإنجليز وليس عميلا لهم، فهل سيملك الإخوان القدرة على النظر داخل أنفسهم ليروا كيف رآهم الشعب المصرى الذى صوّت لهم وائتمنهم على مصير وطن بحجم وتاريخ وعظمة مصر فلم يجد فيهم سوى جماعة خائنة للأمانة فاشلة فى تحمل المسؤولية لا هم لها سوى العمل على تمكين أعضائها من مفاصل الدولة المصرية، وتغيير هوية مصر التاريخية لتخرج من ثوبها الحضارى الباهر وتتلفح بعباية الإخوان السوداء الضيقة الخانقة؟
بالطبع لن تقدر الجماعة على هذا فالصدق مع النفس ليس من طبيعتها التاريخية، والمؤكد أن الجماعة ستزيد من جرعة مشاعر الاستشهاد التى تتشربها بتلذذ وشغف، ألم يكن هذا واضحا منذ البداية، حين قام مؤسسها حسن البنا بتسمية إحدى بناته إستشهاد؟ ولا أعتقد أن رجلا آخر فى مصر فى القرن العشرين سمى ابنته بهذا الاسم الذى يعتبر اغتصابا قاسيا لبراءة طفلة منذ مولدها، وأن لا يفسر لنا هذا كيف كان من الطبيعى لقيادات هذه الجماعة أن تأخذ الأطفال الأبرياء من أحضان أمهاتهم أو من بيوت الملاجئ لكى تسوقهم وقد أعطتهم أكفانا يحملونها وملابس يلبسونها تحمل عبارة مشروع شهيد؟ فهل ستشمل أحزان الجماعة ولو خيطا واهيا من الندم لما وصلت إليه صورتها فى أعين أغلبية المصريين باعتبارها جماعة خائنة تستدعى الأجنبى ضد أبناء الوطن؟
حزن الهزيمة
وهل ستشمل أحزان الجماعة مسؤوليتها عن ضحايا بالمئات، تقول الجماعة إنهم بالآلاف، بين قتيل وجريح فى صفوفها راحوا ضحية معركة كانت الجماعة تعرف، أو كان يجب عليها أن تعرف، أنها لا بد ستكون خاسرة بالضرورة، فقد كانت معارك الجماعة فى الماضى كلها خاسرة، رغم أنها كانت ضد النظام فقط، فما بالها وهى اليوم فى معركة ليس فقط مع الشرطة، ولكن أيضا مع الجيش المصرى، والشعب المصرى بمختلف أطيافه ومؤسساته، من قضاء إلى إعلام إلى المؤسسات الثقافية والفنية والدينية، فقد قامت الجماعة برعونة غير مسبوقة بمعاداة المؤسستين الدينيتين الكبريين فى مصر، وهما الأزهر الشريف والكنيسة القبطية، فقد راحت الجماعة تهاجم شيخ الأزهر وتقلل من شأنه، وتجاهله مرسى فى أحد لقاءاته بشكل فظ وغبى.
كما تم فى عهد الجماعة الاعتداء بالرصاص والحجارة، ولأول مرة فى التاريخ على كاتدرائية الأقباط بالقاهرة مؤديا إلى مقتل وإصابة العشرات، غير اعتداءات أخرى وقعت فى عهد مرسى، كللتها الجماعة بعد عزله بسلسلة من عمليات الحرق والهدم لعدد هائل من الكنائس والأديرة القبطية فى مختلف محافظات مصر بشكل غير مسبوق فى التاريخ المصرى، مما عزز لدى المصريين مسلمين وأقباطا أن الجماعة لا بد أنها كانت وراء كل عمليات العنف الطائفى ضد الأقباط على مدى الأربعين عاما الماضية منذ أن أطلق السادات جحافل الجماعة وحلفاءها من الجماعات الإسلامية على المجتمع المصرى فى السبعينيات، واستمر نظام مبارك فى الرقص مع الجماعة رقصة سياسية وأمنية مبتذلة لم تمنعها من ترويع الأقباط بشكل يشفى غليل كراهيتها لهم من ناحية ويلبى حاجة النظام إلى ابتزاز الأقباط من ناحية أخرى.لن تكون محاولة اغتيال وزير الداخلية منذ أيام آخر محاولات تيار تاريخه مكتظ بأعمال إرهابية مماثلة، فسيلجأ إلى العنف كما لجأ إليه دائما كلما وجد أن النظام قد انتصر عليه، وأن المصريين قد انصرفوا عن الفكر المتطرف لهذا التيار، ونتوقع تكرار هذه الأعمال الإرهابية من تفجيرات واغتيالات هنا وهناك لفترة من الوقت، كما كان الوضع فى التسعينيات، وما هذه الأعمال الإرهابية فى الواقع سوى صورة من صور الانتحار للجماعة والاعتراف الضمنى منها بهزيمتها فى معركة بائسة يائسة خاسرة بالضرورة، فلن تخرج جماعة مهما كانت فاشيتها من معركة مع وطن بحجم مصر سوى بالهزيمة.
حزت الندم
ولعل الحزن الأكبر للجماعة هو حزن مشوب بندم من يعرف أنه أخطأ خطأ تاريخيا هائلا، رغم عدم قدرته على الاعتراف بذلك، فلا شك أنه فى داخل ضمير مرشد الجماعة السجين والكثيرين من قياداتها، رغم كل محاولات الإنكار والمكابرة، شعور قاتل بأن النتيجة المأساوية التى وصلوا إليها على المستويين التنظيمى والشخصى كان يمكن تفاديها، وكان يمكن للجماعة أن تبقى على رأس السلطة فى مصر على الأقل لمدة الأربع سنوات المرسية وربما لأكثر منها بكثير لو كانت الجماعة قد لجمت جماح جشعها المتوحش ولم تحاول الاستئثار بالسلطة واحتكار الحكم، وحاولت بشكل أكبر وجهد أعظم احتضان كل قطاعات الدولة المصرية ومؤسساتها الهامة، ولم تحاول، كما قال أردوغان لصديقه مرسى، أن تقضم أكثر مما تقدر أن تمضغ، وأن تصبر وتتمهل ولا تحاول أخونة الدولة المصرية العريقة، ولا تهرول إلى طبخ دستور ترفضه كل التيارات غير الإسلامية، وتمتنع عن تخويف غير المتأسلمين من المصريين فى مجالات السياحة والثقافة والفنون والإبداع والسينما وغيرها، بالإضافة إلى إهمال علاقتها مع الأقليات، خصوصا شركاء الوطن من المسيحيين الذين شاهدوا بانزعاج شديد أفواج الإرهابيين القدامى يسمح لها النظام بالعودة الحميدة من الخارج إلى مصر بينما يمنح مرسى العفو عن مئات من المساجين الإرهابيين دون تقديم ولو تفسيرات أو تطمينات كلامية حول هذا الأمر.
هل يمكن أن تكون الجماعة قد شعرت بالندم على الهرولة العدوانية نحو فرض الرؤية الإخوانية على مصر كلها وهو ما دفع المصريين إلى الانتفاض والتمرد دفاعا عن هويتهم الأصيلة بإسقاط الإخوان؟ هل يمكن أن تكون الجماعة قد ندمت على خطابها الدينى المتشدد المتعسف الزاعق المخالف لتدين المصريين الوسطى التلقائى الهادئ؟ هل ندمت الجماعة على جريمتها ضد الإنسانية حين زجت بالشباب، بل والأطفال فى معركة جنونية غير ضرورية وغير متكافئة مع الأمن المصرى والشعب المصرى كله فسقط المئات من أعضائها المغرر بهم، وسقط أبناء القادة من الشباب والشابات ضحايا لهذه الجريمة، بينما لم يصب أحد من رجال قيادات الجماعة ولو بخدش؟
تاريخ الجماعة يقول لنا إن الجماعة لا تندم، لأنها لا ترى ولا تعترف بأى أخطاء لها، فقياداتها تقدم نفسها لأتباعها باعتبارها قيادة ملهمة تطلب وتستحق السمع والطاعة، وبالتالى فهى لا تملك رفاهية أن تندم، هى فقط تبرر بأن ما يحدث لها هى محن وابتلاءات من الله لعباده المؤمنين، بينما كل محن الجماعة هى من صنعها بنفسها ولنفسها، هى محن تحدث كنتيجة طبيعية لأخطاء وخطايا وجرائم الجماعة وجشعها وشهوتها فى التسلط والتملك الأرضى، ولا علاقة لها بالسماء، وبسبب ذلك الإنكار الأبدى للأخطاء والتبرير المستمر المتستر بالدين للخطايا والجرائم فلا نجاة للجماعة أبدا من محنها التى تصنعها بيديها ولا أمل فى أى تغيير حقيقى فى أفكارها وأساليبها، ولذلك فكل كلام عن مصالحة أو إعادة تأهيل للجماعة هو مزيج من الجهل بالطبيعة الفاشية للجماعة والخيانة لمصر ومصلحتها العليا.
حزن الفشل
كما أننا لسنا بالسذاجة التى تجعلنا نتوهم أن أحزان الجماعة يمكن أن تشمل حزنا أو ندما على ما أصاب مصر على يد الحكم الإخوانى من أضرار هائلة تمس أمنها وسلامتها ومكانتها فى العالم بشكل لم تعرفه مصر منذ عصر انحطاط المماليك، فالجماعة غير قادرة على رؤية نفسها فلا تستطيع أن ترى ما رآه كل مصرى من فشل كاد يكون كوميديا لولا أنه كان قاسيا جدا على نفسية المصريين بما يحمل من مهانة لمصر كانت تفضحها كل كلمة ينطق بها مرسى، وكل حركة وفعل وقرار يأخذه أو يرسله له مكتب إرشاد الجماعة. وقد اعترف أحد مستشارى الرئيس المستقيلين والمحسوبين على الجماعة أن بعض القرارات كانت تعرض مسبقا على مكتب الإرشاد، كما رأينا كيف كان شخصا بلا صفة فى الدولة مثل خيرت الشاطر يقوم بأدوار سياسية ويجرى مقابلات دولية، وكأن مصر قد صارت عزبة دواجن يؤجرها الرئيس لمن يشاء، لقد كان فشل الجماعة كاملا وهائلا، كما كان فسادها فظا وفجا. كان نقص الخبرة والكفاءة والذكاء فى كوادر الجماعة أمرا واضحا وفاضحا لذلك كان الفشل الهائل إلى حد الهزل هو مصيرها، ومثال واحد لهذا الفشل الهزلى هو ما رآه المصريون بأعينهم على شاشات التليفزيون حين رأوا رئيس مصر يترأس مؤتمرا لمناقشة قضية أمن مصر القومى المتمثل فى التهديد الإثيوبى لمياه النيل فإذا بالحاضرين يخوضون فى مناقشات خطيرة عن القيام بأعمال تخريبية داخل إثوبيا غير واعين بأن الاجتماع مذاع على الهواء لكى يرى العالم كله فضيحة إخفاق الرئاسة المصرية فى إدارة اجتماع على هذا القدر من الأهمية فيخرج على هذا القدر من الهزل والهبل، ولكن أسوأ ما أدان الجماعة وأسقطها فى ضمير المصريين كان وضعها مصلحة الجماعة فوق مصلحة مصر، والنظر إلى مصر ليس كوطن هائل له تاريخ عظيم، ولكن كمجرد إمارة يمكن أن تتبع مركز الخلافة الإسلامية التى كانت الجماعة فى حلم دائم بها، ولو كان هذا المركز فى ماليزيا أو القدس أو إسطنبول، هى إذن خيانة الجماعة لمصر كوطن وكحضارة وكتاريخ مما أسرع بإسقاطها فى ضمير المصريين، ثم فى الشوارع التى خرج إليها ثلاثين مليون مصرى يعلنون فيها هذا السقوط.
حزن الوداع
فى النهاية فإن الحزن الأخير للجماعة هو حزن الوداع، فلا بد أن الجماعة تكاد ترى نهايتها مكتوبة بأحرف سوداء تلطخ كل جدران المبانى التى أحرقتها فى أنحاء مصر بما يفوق إحراقها للقاهرة فى 26 يناير 1952، فعلى جدران كل قسم شرطة أحرقه الإخوان وقتلوا وسحلوا ضباطه وجنوده، وعلى جدران متحف ملوى الذى أحرقوه ونهبوا ما به من آثار مصر القديمة التى لا تقدر بثمن ولا يعرف هذا التيار الظلامى قيمة لها، وعلى جدران كل كنيسة ودير وملجأ أيتام قبطى حرقه وهدمه الإخوان، لا بد أن المصريين الذين تمج أنفسهم المسالمة هذا العنف الوحشى وهذه الكراهية الفظة قد رأوا نهاية الإخوان مكتوبة بأحرف من السواد الذى تركه رماد هذه الحرائق على الجدران، الجماعة تدرك الآن لأول مرة فى تاريخها أن الشعب المصرى، وليس النظام فقط، قد صار عدوا لها رافضا لفكرها الكاره الكريه ولأفعالها الإرهابية الدموية المجافية للطبيعة المصرية قبل أى شىء آخر.
يحق للجماعة إذن أن تحزن حزن الوداع وأن يمشى قادتها فى جنازتها إلى مثواها الأخير، وكما لم يمش فى جنازة مؤسس الجماعة حسن البنا سوى رجل واحد هو الزعيم القبطى مكرم عبيد، فإن الجماعة هذه المرة قد لا تجد حتى ذلك القبطى الوحيد الذى يمشى فى جنازتها للمواساة، ذلك أن الجماعة قد قطعت رباط الرحم الذى يربطها بمسقط رأسها مصر. ولم يعد فى قلب مصر تجاه هذه الجماعة المشوهة الشرهة غير الرغبة الحثيثة فى الخلاص منها كما يرغب الجسد المريض فى الخلاص من مرض خبيث ظل ينهش فيه لسنوات، فكان لا بد فى النهاية من استئصاله فى عملية جراحية خطيرة، مؤلمة، ضرورية، وناجحة تماما بإذن الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.