حتى لو قالوا فيه أكثر مما قال مالك في الخمر، فلا تكرهوا الفسيخ، أحبوه وسوقوه في كل مكان ولا تخجلوا منه أمام الأغراب لأنه جزء من تراثنا وهويتنا كالأهرامات وشارع المعز إذا نظرنا للأمور بجدية ومنحناها قيمتها، لكن كعادة هذا البلد تملكت الندالة من النفوس وأنكرنا على أنفسنا صنيعنا الحسن، وحملنا لواء العار نقدح في الفسيخ فطعنَّا أنفسنا دون أن ندري. بلا مبالغة الفسيخ أو حفظ الأسماك بالتمليح هو علامة مميزة جدا للتراث المصري، فأمام العالم نحن نأكل إلى الآن طعامًا ابتكر أجدادنا طريقة تحضيره، وهو أمر عظيم وإن أثار ذلك سخرية السوشيال ميديا. أكاد أجزم أن وزير الصحة يتهم الفسيخ في العلن ويعشقه في الظلام، وهكذا هو الحال مع غالبية المسئولين الرسميين، لكن على كل حال فالكارهون قلة والمحبون بالطوابير. الفكرة من جذورها مجنونة ومتناقضة «حكومة تهاجم طعاما يعشقه شعبها» لا تفكر في منعه أو تطويره أو تقديمه للعالم بشكل مختلف أو جذب شرائح جديدة من الأجانب لهذا الطعام كما سوقت اليابان السوشي للعالم، وأصبح من أغلى الأطعمة رغم الحديث المتنامي عن مخاطره الصحية، وكما تعتبر السويد الستيسترومينغ أو رنجة البلطيق المخمرة طعاما وطنيا من تراث الفايكنج رغم رائحتها المصنفة ضمن الأسوأ في العالم، فأفلا يستحق الفسيخ أن يخرج من قفص الاتهام ويصنف ضمن التراث المحبوب لا المغضوب عليه؟! ربما تنتظر الحكومة أن يفوت الأوان لتتحرك بعد أنْ نسب بنو صهيون الفلافل والفول كوجبات تراثية لديهم، وقبل سنوات صارت شائعة تسجيل اليابانيين تسجيل الملوخية المصرية لأنفسهم، لكن الأكيد أنهم عشقوها ووضعوها في لوائح طعامهم وطبخوها كشوربة على الطريقة المصرية وأصبحت الشوربة السوداء، بينما لم نثبت نحن أصالة الجبن الرومي والبراميلي والجبن القديم أو المش والجبن الثلاجة والقريش؛ وهي أجبان ابتكرها أهالينا على ساحل المتوسط والدلتا والصعيد، وتركنا الناس يعتقدون أنها من صنع الأجانب. بعث سيد حجاب في أرابيسك برسالة عظيمة المعنى قليلة الكلمات: «أهلك لتهلك» فكلما هاجمتم أي حسنة في تراثنا فأنتم تشاركون في تدمير هذا البلد، فالفسيخ أحد الرموز الأساسية لمطبخنا الذي أهناه وتركناه لسخرية الأتراك والمغاربة، واللبنانيون يدَّعون فقره بل وقذارته، بينما هم نجحوا في تحويل مطابخهم التراثية إلى عامل جذب مهم للسياحة وذراع للقوى الناعمة؛ فأصبح للمطبخ اللبناني مطاعم في كل دول العالم وغزا المغاربة البحر المتوسط وأصبحوا ملوكا بمطبخهم. وفي ظل هذين الحربين «العالمية والمحلية» على مطبخنا ندعو لحمايته وتبجيله كما تم تقديره قبل آلاف السنين، فمن يعشق الفسيخ أو تراثه بمعنى أصح يُقتل في كل ثانية يرى الهجوم عليه. أتذكر أن مدافع كرة القدم الفذ إبراهيم يوسف روى حكاية عنه وأخيه إسماعيل عندما اصطحبا معهما فسيخًا في رحلة لمنتخب مصر متجهة إلى أوروبا، وتم مصادرة الشحنة في المطار وخضعا للتحقيق كونهما يحوزان مواد خطرة، وليس الأخوان يوسف فقط بل مصريون كثر في الغربة يحاولون الوصول إلى الفسيخ، وسمعت منذ وقت قريب أن مصريين في الولاياتالمتحدة يتوليان عملية تخليل أسماك العائلة البورية، ويبيعانها للمصريين هناك؛ لكسر حاجز الزمان والمكان واستدعاء الذكريات، هذا العشق العابر للأرض والمكان يجعلنا نخلص فعلا لفكرة مطبخنا الأصيل.