«هيبا» فى رواية يوسف زيدان شخصية مصرية حقيقية لشاب ظل يبحث عن الحرية والفلسفة والدين دون جدوى حتى استقر فى أحد الأديرة السورية تاركا وراءه رحلة مليئة بالمواقف والصراع مع «عزازيل» وهو الشيطان فى بعض اللغات القديمة. نظر لى الرهب "هيبا" نظرة عتاب وقال لى وهو يمضغ الكلام : أوه، ماذا فَعلتَ بى يا يوسف زيدان، افتعلتَ قصةً لا أصل لها، وقُلتَ إنك عثرتَ على رقوق ٍ ولفائفٍ مكتوبة بالسريانية تحتوى على قصتى، كم أنت مخادعُ ُ يا يوسف !!. قاطعته : ولكن أيها الرهب. .. فبادرنى : لا تقاطعنى. . هل هان "هيبا" الراهب عليك، هل هان عليك يا أخى صاحبُك الذى صاحبَك سنوات وسنوات ؟ لماذا لم تقل لهم الحقيقة ؟ لماذا لم تقل لهم إننى لم أمت حتى الآن ؟ أرأيتَ لو قلتَ لهم الحقيقةَ أكانوا يكذبونك ؟ ها أنت ذا لم تقل لهم الحقيقةَ وكذبوك، رقوق ولفائف !! ما هذا الخيال يا زيدان ؟! خيالك أضيق من الحقيقة. قلت له : ولكن يا سيدى. . استمر وكأننى لم أتكلم : ما أروعك أيتها الحقيقة، لقد انحسرت عنكِ عقولُ البشر ، ولم تنحسرى عنهم، قل لهم يا زيدان إننى كنتُ معك وكنتَ معى، قصصتُ عليك بنفسى قصتى، عرفتَ منى ذلك السحل البشع الذى حدث لمعشوقتى «هيباتيا»، قل لهم يا يوسف إننى ما زلتُ فى دنياكم لم أغادرها، الباحث عن الحقيقة لا يموت أبدا، ما زلت كما أنا فى شرخ الشباب. صحت فى وجهه : اسمعنى من فضلك. قال وكأنه يعيش فى حلم : صه.. أنت بنفسك قلت لى إنك نظرت لى من وراء الزمن ، فرأيتنى فى القرن الرابع الميلادى، وصاحبتنى فى رحلتى.. وآمنت بوجودى فى زمن الحقيقةِ لا فى زمنِ الروايةِ، كنت معى وأنا فى أخميم أتعلم الطب، ولا يماريك أحد ُ ُإذ رأيتنى وأنا أنخرطُ فى سلكِ الرهبنةِ أتحرق شوقا للمعرفة، وكنت معى وأنا أتنقل بين أسوان ودمنهور ودمياط والإسكندرية وأورشليم وحلب وإنطاكية، آنذاك دانت لنا المعرفةُ حيث أدركنا سوياً أن مُعظمَ البشرِ كان يبحثُ عن الحقيقةِ ويظنُ أنه امتلكها ، أو أنه أصبح صاحبَها بلا منازعٍ ، فى حين أنه يسعى إلى تمزيقها إرباً لينتصر لذاتهِ التى عبدَها من دون اللهِ سبحانه وتعالى وذلاتهِ التى قدمها قربانا لعزازيل. لم أطق صبرا وقلت له : يا عم الحاج أنا لست يوسف زيدان. قال باشمئناط : عجبا.. وتنكر نفسك، هل ظننت أننى أحدثك على الهاتف !!. قلت : هاتف ! هل كان الهاتف على أيامكم ؟!. هز رأسه بألم : تعرف أن هاتفنا ليس مثل هاتفكم، ولا علاقة له بشركاتِ الهاتف النقال التى لديكم، هاتفنا هو حديثُ الروح، وحديثُ الروح ِ للأرواح يسرى وتدركه القلوبُ بلا عناء ِ. قلت وقد نفد صبرى : ما علينا، أنا لست يوسف زيدان، أنا أبو يكح الجوسقى. قال باحتقار شديد بعد أن رفع حاجب التعجب : يكَّح ! جوسقى قلت : نعم يا سيدى، ولكن اختلط عليك الأمر، فنحن كمصريين لنا نفس السحنة النيلية كما تعرف، فقد مات أبوك الوثنى على أحد المراكب فى النيل، أليس كذلك ؟ ألم تتآمر أمك على أبيك وساعدت فى قتله !. قال الراهب متضجرا : لقد فضحنى يوسف زيدان، لقد قلتُ له لا تحك هذا الجانبَ من حياتى، ولكنه كباقى المصريين يحب النميمة. قلت : على فكرة أنا أعرفك حق المعرفة، وسعدت عندما قرأت قصتك فى رواية عزازيل للأخ يوسف زيدان، ولكننى كنت أظن أنك خيال إلى أن رأيتك اليوم قادما من انطاكية إلى حلب لكى تساعد الثوار فى سوريا. ..أرجوك، أرجوك، أترك سوريا الآن وهيا معى إلى مصر بلدك، ساعدنا بقلبك الصوفى فى معرفة الألغاز التى نمر بها. قال : ألغاز ! أى ألغاز ؟هل تقصد الغاز الذى تصدرونه إلى إسرائيل ؟ قلت : يا عم الحاج صل على النبى، ما دخل الغاز فى الألغاز ؟ قال : لهما نفس الرائحة. قلت : وفر الكلام وهيا بنا إلى مصر. قال : هل سننتظر قافلة ؟ قلت متهكما : نعم قافلة مصر للطيران. لعلكم ستتعجبون أيها السادة من تلك الرحلة الرهيبة التى صاحبت فيها الراهب "هيبا" إلى مصر، فأخيرا يعود هيبا إلى مسقط رأسه، قال لى هيبا أثناء الرحلة : هذه هى رحلتى الثانية فى مواجهة عزازيل، وإذا كان عزازيل الأمس شيطانا من الجن فإن عزازيل اليوم من الإنس. .. وأثناء السفر قال لى أيضا : إن ثوراتكم لم تكن أبدا ضد الحكومات الظالمة ولكنها كانت ضد عزازيل، وأضاف : إن مشهدكم الثورى لم تر البشرية مثيلا له من قبل، ولعلكم ستنتصرون على عزازيل. وفى القاهرة أخذنى الراهب هيبا إلى أحد المستشفيات وقال لى : من هنا سنرى عزازيل وسنناقشه ونسبر غوره، وعندما قلت له : أرجوك يا أخ هيبا كلمنى بالعربى فأنا لم أفهم كلمة " نسبر غوره ".. نظر لى ولم يعقب. تسللنا من الحراسة المشددة بعد أن ارتدينا زى الأطباء، قال لى هيبا وهو يشير إلى مكان قصىّ : هذا هو جناحه فأنا أشم رائحته، دخلنا إلى الجناح فوجدنا عزازيل. .. ياللمفاجأة، كان فى أوج صحته، يجلس أمام شاشة معلقة على الحائط وبيده الريموت يتنقل بين القنوات الفضائية ، وهو يضحك ضحكة شريرة، قال له هيبا: بنسوار مسيو. نظر عزازيل إلينا وقال : من أنتم ؟ قال هيبا : على رسلك، هل كلكم تقولون من أنتم. . نحن أطباء أتينا إليك من أخميم للكشف عليك. قال عزازيل : أخميم ؟ أعرف أخميم فهى ولاية أمريكية تقع بالقرب من فرنسا. تدخلت قائلا : بعد الرست هاوس بشوية يعنى شمال كوبرى القبة. قاطعنى هيبا موجها حديثه إلى عزازيل : نريد أن نعرف من سيادتكم كيف أصبحت رئيسا للبلاد، ستساعدنا هذه المعرفة فى وضع خطة جيدة لعلاجك. عزازيل : علاجى ! هل صدقت هذه الترهات، أنا لست مريضا، ولكن. . الاحتياط واجب وأنا حريص على صحتى، سأحكى لك. قام عزازيل واقفا وقال : يا لها من بشاعة، شعب ناكر للجميل، مظاهرات ضدى أنا تخرج فى عيد العسس، هل أخرج هذه المظاهرات الخونةُ والعملاء، آه وآه، يا لك من شعوب ناكرة للجميل. . احمَّرَ وجه عزازيل من التوتر والقلق، واخضَّر شعرُه من الصبغة بعد أن اختلطت عليه الألوان بسبب التوتر ثم قال : يا لها من أيام لقد توليت الحكم منذ سنوات طويلة، وقدمت لبلدى الكثير والكثير، صحيح أننى قدمت لنفسى أيضا حتى أصبحت واحدا من أغنياء العالم، صحيح أننى كممت الأفواه وفقأت الأعين وأودعت المعارضين فى السجون. . وصحيح أيضا أن أعوانى قاموا بتلفيق القضايا المختلفة لمن لم يقدم لى فروض الولاء والطاعة، إلا أن هذا كله كان من لزوميات الحكم وضرورات السياسة لا غنى عنه أبداً خاصة مع تلك الشعوب التى لا تحمد الله على رئيس لديهم. . ولكن بالرغم من كل هذا فإن التاريخ لن ينسى تلك الخدمات الجليلة والثقيلة التى قدمتها لشعبى الكنود والتى تنوء بحملها البلاد حتى أن كتف الشعب مال وانحنى من تدفقها. ... أطرق عزازيل وكأنه يحاور نفسه : تذكرون يوم أن فاز فريق بلدى فى الكرة الشراب فى البطولة القارية. . آآآه من هذا اليوم ياله من يوم لا يتكرر فى تاريخ الأمم ، لقد وقف الشعب بأكمله يهتف مكتفيا بالبطولات التى تحققت فى عهدى قائلا : ( كفاية كفاية ) يومها تذكرت السبب الذى جعلنى أتحول من جندى بالجيش إلى نائب للرئيس ثم إلى رئيس دانت له البلاد كلها. . فى ذلك اليوم البعيد كان قد تقرر أن يزور الرئيس السابق الجيش الوطنى ومن تصاريف القدر كنتُ أحد الجنود الذين تم اختيارهم ليكونوا فى شرف الاستقبال . . تذكّرت ما قلته يومها لنفسى وأنا أحاورها : يا لها من صدفة لاتتكرر. . استطرد وهو يقول: اصطف الجنود فى جدية وثبات، ومر علينا الرئيس ثم فجأة توقف أمامى وقال للجندى الذى بجوارى : مااسمك ؟ قال الجندى : حنفى جاد الرب يافندم. . فقال الرئيس : وما تلك التى فى يمينك يا حنفى ؟ قال الجندى حنفى : هى بندقيتى . . فقال الرئيس له : خطأ. . لاتقل هذه بندقيتى ولكن قل هذه زوجتى وعِرضى. . ثم التفت الرئيس لى ..وأشار إلى بندقيتى قائلا : وما تلك التى فى يمينك. .. وقتها كنت قد تعلمت الدرس فقلت له بثبات وذكاء مفرط : زوجة الجندى حنفى جاد الرب يافندم. .. كانت إجابة مسكتة. . إلا أن هذه الإجابة نقلتنى على الفور من موقعى كجندى لا قيمة له إلى مساعد للرئيس ثم استمرت الأقدار فى تصاريفها فأصبحت رئيسا عبقريا قلما تجود به البلاد. . والآن وبعد هذه السنوات الطويلة التى قضيتها فى الحكم إذا بمن يهمس قائلا: إن شعبى ثار وخلعنى. قلت له بعد أن أنهى حديثه : ما أعظم تفكيرك أيها الجنرال، ولكن قبل أن ننصرف أرجو أن تجيب على بعض الأسئلة حتى نصف لك بعض المقويات التى تعتمد على تحليلنا لشخصيتك. عزازيل : سل ما شئت. قلت : من هو نجيب محفوظ ؟ عزازيل : أعرفه جيدا فهو لاعب كرة قديم بالأهلى ، قلت : وتوفيق الحكيم ؟ عزازيل : آه إنه وزير الصحة فى العهد الملكى، قلت : وعمر مكرم ؟ وقبل أن يجيب عزازيل قاطعنا هيبا وهو ينظر إليَّ متعجبا من أسئلتى ثم سحبنى من ذراعى.. وحيا عزازيل وهو يقول لى : لقد سبرنا غوره هيا بنا.. قلت : ما معنى سبرنا غوره، إلا أنه نظر لى ولم يعقب. وفى ميدان التحرير وقفنا وأخذنا نتحدث مع بعض الثوار، قال لى هيبا : إنهم مثلى، يالهم من شباب رائع صمم على أن يصل للحق، وبعد هنيهة وجدنا شيخا اسمه عماد عفت يمسك يد أحد الشباب الثائر ويهتفان سويا للثورة، ثم إذا برصاصة غادرة تقتل الشيخ فيصرخ الشباب، جلسنا أياما فى التحرير ونحن نرى الشباب يقع صريع الرصاص الغادر الذى لم يعرف أحد من أين يأتى، وعن بعد رأينا طبيبة تقوم بتوزيع بعض الأدوية على المصابين وإذا بثلة من الجنود يطاردونها، ألقوها أرضا، مزقوا ملابسها، وهنا صاح هيبا : يا الله ! هيباثيا، هاهى هيباثيا يتم سحلها للمرة الثانية، سحلوها أولا فى الإسكندرية منذ قرون، وهاهم أنصار عزازيل يسحلونها ثانية هنا، ثم انفعل وهو يقول : سأنقذها هذه المرة، لن أجبن كما جبنت من قبل، فى المرة الأولى تقدمت لها حبيبتى أوكتافيا بشجاعة وتأخرت أنا. قاطعته : أوكتافيا هذه ماركة سيارات يا سيدى نظر لى وقال : أوكتافيا الوثنية.. إنكم تجهلون الخير الذى كان فيها، هى أفضل من الخانعين منكم من الذين لا يغادر الدين تراقيهم، سآتى إليك يا هيباثيا، يا ملكة الحقيقة والعدل والحرية، سأنقذك هذه المرة. وعن بُعد رأيت هيبا وهو ينكفأ على الفتاة المسحولة ، وهو يبكى والجنود يقفزون على صدره، ويمزقزن أضلاعه. .. فنظرت إليه ولم أعقب.