«يا بلادى يا أحلى البلاد يا بلادى فداكى أنا والولاد يا بلادى بلادى يا بلادى بلادى يا بلادى يا حبيبتى يا مصر يا مصر يا حبيبتى يا مصر يا مصر».. لم يكن غريبًا أن تتردد كلمات تلك الأغنية الصادقة في حب مصر في جنازة، صوت مصر، الفنانة الراحلة "شادية"، ولم يكن خروجًا على النص أن يردد مشيعوها لمثواها قبل الأخير كلمات تلك الأغنية الخالدة "ياحبيبتى يامصر"، في مشهد مهيب انفطرت له قلوب الملايين. "شادية" لم تلقب بصوت مصر من فراغ، فهى فنانة صاحبة تاريخ عظيم مع الأغنية الوطنية، غنت بقلبها وإحساسها وكل وجدانها كلمات لخصت تاريخ بلد لم يقو أحد على كسره، وقفت على المسرح وأوصلت بصوتها الدافئ حالة شجن لن تتكرر في عشق تراب بلدها، وأثبتت أن الوطنية حالة رومانسية خاصة يهيم فيها المحب في حبيبته "بلده" عشقًا وجنونًا، حتى يكاد يقنع العدو نفسه ويجعله يفكر في العدول عن رأيه ويهيم في ذلك البلد الفاتن الساحر. تراها على المسرح وهى تغنى "يا حبيبتى يامصر"، و"يا أم الصابرين"، و"مصر اليوم في عيد"، و"أمانة عليك أمانة"، و"عبرنا الهزيمة"، وغيرها من الأغانى الوطنية الخالدة، فتشعر بحب مصر يجرى في عروقك ويصل لشرايين قلبك فيغذيها ويعيد الحياة إليها، تلك الحياة التي لا تستقيم سوى بحب الوطن. تتابع تفاصيل وجهها ونبرات صوتها ونحيبها على المسرح وفى كواليس تسجيل الأغانى، فتعلم أنها لم تكن مجرد مطربة تغنى أغنية وطنية بل تتأكد أنك أمام ابنة بارة مخلصة كرست حياتها وصوتها لخدمة أمها "مصر". "شادية" لم تنس يومًا أنها ابنة الشوارع والحوارى والأزقة، ولم تنس أبدًا أنها ابنة عاشت مع أمها حالة المخاض والنزيف والوجع وشهدت معها ميلاد الثورة، وحملت مولودها الجديد في قلبها وعقلها وكل كيانها، وأحاطته بدفء صوتها وإحساسها وصدقها في تمنى كل الخير له. عاشت حالة النكسة وثارت بصوتها على الوجع، وخاضت حرب الاستنزاف، ونهضت كما نهض البلد كله في حرب أكتوبر المجيدة، لتثبت في النهاية أن الفنان الحقيقى صاحب رسالة ولا يتكاسل أبدًا عن نشرها والدعوة لها. "شادية" قدمت خلال مسيرتها الغنائية ما يقرب من 40 أغنية وطنية، أبرزها "يا حبيبتى يا مصر" كلمات محمد حمزة وألحان بليغ حمدى، و"أمانة عليك أمانة" كلمات إسماعيل الحبروك ولحن محمد الموجى، و"بلد الأحرار" كلمات فتحى قورة وألحان محمد الموجى، و"يا أم الصابرين" كلمات عبدالرحيم منصور وألحان بليغ حمدى، و"يا بنت بلدى" كلمات حيرم الغمرانى وألحان محمود الشريف، و"عربى في كلامه" كلمات مأمون الشناوى وألحان منير مراد، و"عبرنا الهزيمة" كلمات عبدالرحيم منصور وألحان بليغ حمدى، وغيرها بجانب أغنياتها في أوبرتات غنائية مثل "الجيل الصاعد"، و"وطنى حبيبى". ومن بين تلك الأغانى الوطنية، كان لأغنية "يا حبيبتى يامصر" مكانة خاصة في قلب شادية وجمهورها في العالم العربى كله، فتلك الأغنية عشقها الصغار والكبار وتغنت بها القلوب قبل الأصوات، وكانت ولا تزال الأغنية الرسمية في مختلف المناسبات الوطنية والثورية، ولعل من أبرزها ثورة 25 يناير 2011، فخلال أيام الثورة ومنذ اشتعال شرارتها الأولى وصوت شادية يهز أرجاء ميدان التحرير، ويلهب حماس المتظاهرين ويزيد إصرارهم على الثأر لكرامتهم وتحقيق أهدافهم "عيش حرية عدالة اجتماعية". وكأن شادية تحولت مع مرور الزمن بتلك الأغنية إلى سلسال "وطنية" وفيض مشاعر لا يتوقف، وحالة رومانسية خاصة في عشق تراب مصر، ولم يقتصر تأثير تلك الأغنية في مصر فقط، ففى احتفالات المصريين المغتربين في الخارج وتفاعلهم مع مختلف الأحداث السياسية، كانت ولا تزال الأغنية الأكثر حضورًا وتأثيرًا، واستحقت في النهاية أن تزف شادية إلى مثواها قبل الأخير وسط دعوات لها بالرحمة والمغفرة بحق كل ما قدمته لمصر. لم تجبر "شادية" يومًا على الغناء لمصر ولم تفعل ذلك أيضًا طمعًا في المال أو التكريم، ففنانة مثلها صنعت تاريخا فنيا كبيرا جعلها أيقونة في تاريخ السينما والغناء العربى، ولم تكن تنتظر مزيدا من الشهرة أو التكريم بأغانيها الوطنية، لكنها فعلت ذلك فقط لإيمانها بمصر، وقضاياها وحبها لها وإخلاصها لكل ما يتعلق بها، ولم تتردد في الغناء لمصر دون أن تتقاضى مليمًا واحدًا بحسب تأكيد الإعلامي الراحل وجدى الحكيم في مذكراته الصوتية، وكانت قاعدتها الرئيسية في الغناء الوطنى أن "حب مصر ليس له ثمن ولا يمكن أن نتاجر به". وبعد مسيرتها الحافلة بالعطاء لمصر لم يكن أمام مصر سوى أن تبكيها يوم فراقها، في "نوفمبر الأسود"، ولم يكن أمام نجوم الفن، ممن نشأوا في مدرستها الفنية الخاصة بصوتها وأدائها وسحرها وتقمصها لمختلف الشخصيات، سوى النحيب والوقوف حدادًا عليها في مختلف المناسبات، ومن أبرزها مهرجان القاهرة السينمائى الدولى في دروته ال39؛ حيث اتشحت النجمات بالأسود حزنًا على صوت مصر الراحل، ووقف الجميع في مشهد مهيب لن ينسى، وبكاها أيضًا مجلس الوزراء وجهات رسمية كثيرة، وكان الصوت الأقوى والأكثر تأثيرًا في وداع شادية جمهورها ممن علا صوتهم بجملة واحدة "مين هيغنى لمصر بعدك".