كان واقفًا بجوار سلم المسجد، يمسك في يمينه عصا يتكأ عليها، وفي يده الأخرى كتابا اهترأت صفحاته وبدون غلاف بالطبع، ضخم البنية، أصلع الرأس، مظهره مخيف للناظرين. مررت بجانبه، وفي حذر شديد ألقيت السلام، لم ينتبه حتى إلى وجود شخص يمر بجانبه، وكأنه يشاهد فيلما ولا يريد أن يفقد مشهدا، قررت أن أتغاضى عن الموقف وأتبع طريقي للمنزل، ولا أدري سبب توقفي على بعد ثلاثة أمتار تقريبًا منه، وأنظر إليه في ترقب وألقي السلام مرة أخرى، ولكن للمرة الثانية، كل ما تلقيته كان صمتًا من هذه الجثة الساكنة السارحة في ملكوت البارئ، وأعتقد أنه لو مرت ذبابة أمام وجه هذا العتي لكان لها تأثيرا عن صوتي. انتابتني قشعريرة من لسعة برد في الجو والساعة قد قاربت على الثالثة صباحًا، ولمحت من بعيد رجلًا قصير القامة يرتدي جلبابًا ويمشي متكاسلًا، وفي نفسي أتساءل هل هذا «عم محمود»، وهل ألقي عليه السلام هو الآخر أم لا، وإذا كان عم محمود هل لي أن أسأله عن هذا الغريب الذي يقف بجوار سلم المسجد؟ قبل أن أقرر ماذا أفعل تفاجأت بصوت «عم محمود» الجهور يلقي عليَ السلام، وقبل أن أرد عليه السلام باغتني بسؤاله: «واقف متنح كدا ليه؟»، رددت مسرعًا: «مش شايف كويس والله وكنت بتأكد مين اللي جاي عليا من بعيد». «عايز أتكلم معاك شويا يا حاج؟»، طلبت منه ذلك بعد أن تصافحنا، وكعادة الكرماء قرر أن نجلس أولًا أمام منزله الذي يسهر أمامه يوميًا حتى الصباح لنشرب معًا الشاي على الفحم، ولم يكن منزله بعيدًا عن مسكني، وكان كل شيء مجهزا فكان الفحم مشتعلًا داخل «المنقد» ولكن يغطيه الرماد، وبجواره كان أبريق الشاي ممتلئ بالماء والأكواب جاهزة وكل شئ على ما يرام. ترك لي مهمة تحضير الشاي وبدأ هو في تجهيز «الشيشة» الخاصة به، وعلى صوت كركرة الشيشة بدأ بيننا حوار عن أهالي الشارع الذين لا أعرف غالبيتهم؛ ربما لأني أقضي معظم الوقت في العمل، وربما لأن الشارع أصبح مكتظا بالمغتربين من المحافظات الصعيدية. على هامش ذلك قررت أن أسأله عن هذا الصامت الذي كان يقف بجوار سلم المسجد، وقبل سؤالي رويت له ما حدث، بعد أن انتهيت من حديثي دخل في نوبة ضحك هيستيرية، ما أثار غضبي وقررت أن أتركه وأذهب خاصة أنني قد انتهيت من كوب الشاي الرائع الذي أكرمني به. أمسك بيدي قائلًا: «استنى بس، في حد يخاف من مصطفى، ده شاب مسكين وغلبان، وحصلتله حادثة غريبة من فترة». حديثه أثار دهشتي وفضولي، وجلست مرة أخرى لأستمع للحكاية، ولكن «عم محمود» قرر أن يلهب فضولي، قائلًا: «هحكيلك الحدوتة بس استنى أغير حجر الشيشة؟». لا أعلم لماذا يحبون الشيشة، وما المتعة من تلك العادة السيئة، وراودتني أسئلة عن الفرق بين الشيشة والسجائر وما أقلهم ضررًا، ولماذا يفضل «عم محمود» أن يجهز الشيشة بنفسه ولا يذهب للمقاهى مثل باقي سكان الشارع، ولكن قررت ألا أدخل في هذا النقاش حتى لا أضيع على نفسي «حدوتة الرجل الضخم». أخذ نفسًا عميقًا، تبعه بنفس آخر ولكن من الشيشة، ونفس دخانه في الهواء، وخلال متابعتي للدخان في الهواء، قال لي: مصطفى كان بودي جارد في ملهى ليلي، ولكن بعد مشادة كلامية انتهت ب«عركة» كبيرة بينه وبين زملائه من أصحاب المناكب العريضة، قرر أن يترك العمل. متسرعًا كعادتي سألته: «من وقتها وهو ساكت كدا يعني؟»، وكان رده عنيفًا: «أنت هتسكت وتسمع للآخر ولا أسكت أنا؟»، صدمتني كلمات هذا العجوز السبعيني، وقررت أن أصمت حتى يفرغ من حكايته. بعد أن ترك العمل، عطفت عليه راقصة من الملهى، واحتضنته وقررت هي أن تجعله الحارس الشخصي لها، يتجول معها من ملهى إلى آخر، كتمت ضحكاتي وحبستها في ذهني وأنا أفكر «الراقصة عطفت عليه؟ ده أحلى عطف ده ولا إيه؟». استطرد «الحاج محمود»، حديثه ليكشف عن بداية قصة حب وقعت بين البودي جارد والراقصة التي لا يذكر اسمها الحاج محمود ولكن كان مصطفى يناديها ب«سونا»، وقرر الحارس الشخصي أن تتوقف حبيبته عن التعري أمام السكارى، وألا تجعل جسدها الفاتن مباحا أمام عيون جمهورها العريض، وقبل أن يبلغها بقراره جمع أموالًا تكفي ليفتتح بها صالة ألعاب «جيم»؛ لتكون مصدر دخله بعد أن يتوقف عن حراسة الراقصة ويتزوجها، هكذا كان يخطط. اجمع «مصطفى» قواه وقرر في صباح يوم خميس من الأخامس الحمراء التي تقضيها الراقصة في ملهى ليلي واحد وفقا لعقد عمل وقعته مع أحد أكبر الملاهي الليلية في شارع الهرم، أن يكشف لها عن حبه وأن يبلغها بجمعه مبلغا من المال يكفي لزواجهما وافتتاح «جيم» خاص به ليكون مصدر دخلهما بعد الزواج. جاء إلى ذهني سؤالًا آخر لم أستطع أن أمسك لساني عن التلفظ به، فقاطعت الحاج محمود قائلًا: «أنا هعمل شاي تاني.. بس قبل ما أعمل شاي أنت عرفت الكلام ده كله منين؟ أنت كنت مستخبي تحت الترابيزة في بيت الرقاصة ولا إيه؟»، على صوت قهقهات العم محمود، ولأول مرة يثلج صدري بإجابة مباشرة على سؤالي: «مصطفى نفسه حكالي قبل اليوم المشئوم!»، استفزتني كلماته ولكن قررت أن أكبح فضولي وألا استفسر عن ذاك اليوم المشئوم، واستمع لسرده المشوق. كان يعتقد مصطفى، أن تلك الراقصة تعشقه، وأنها ستوافق على الفور وتلغي كافة عقود العمل التي تربطها بالملاهي الليلية؛ لتتفرغ ليوم الزفاف وعش الزوجية بجوار هذا الضخم، ولكنها جاوبته بكل هدوء: «أنا بحبك لأنك مخلص في عملك، وبحب الرقص أكتر من أي شخص حتى أكتر من أهلي اللي تركت لهم المنزل وهربت عشان أشتغل رقاصة، وشوف شغلك بدل ما تلاقي نفسك مرفود وهجيب بدل منك أي واحد تاني». وقعت كلاماتها كالسيف على مصطفى، وتركت قلبه باكيًا ينزف دمًا، ولكن كرامته لم تسمح له أن يستمر في العمل مع تلك المغرورة التي لا تحب إلا التعري والنوم في أحضان عيون السكارى، فتركها في هذا اليوم إلى غير عودة. ترك تلك الشيطانة، ولكن إبليس لم يتركه، فبدل أن يذهب ليفتتح «الجيم» ويستقر بعيدًا عن الطريق المشبوه، نزل ليسهر وسط السكارى، ويشاهد حبيبته ترقص أمامه، بل تطور الأمر معه ليجلس وسط مجموعة من المقامرين، إيمانًا منه أن مشكلته الحقيقية كانت في قلة الأموال وإنه لو كان ثريًا لكانت «سونيا» وافقت على الفور أن تتزوجه، بل كان من الممكن أن تطلب هي ذلك. وصل به الحال إلى إنسان مدمن للكحوليات، خسر كل ما يملك في المقامرة وسط مجموعة من النرجسيين، وبدت علامات الاكتئاب واضحة على وجهه، قليل الحديث مع أقاربه، لا يجالس أصدقائه، حتى لا يلقي السلام على أحد في الشارع. في «يوم مشئوم»، خرج «مصطفى» -الذي يعاني صعوبة في السمع منذ صغره- من الملهى سكرانًا يترنح في مشيته، يجتهد في التذكر أين ترك سيارته قبل الدخول للملهى، بعد أن وصل إليها بصعوبة وبدأ في القيادة، ضغط على زر مشغل الموسيقى، ظنًا منه أن الموسيقى الصاخبة العالية ستجعله يفيق ويرى الطريق بوضوح. كان يقود السيارة بسرعة هيستيرية، وفجأة ظهرت أمامه مقطورة من العدم، لم يستطع أن يسيطر على السيارة، فاصطدم بقوة في المقطورة ما أدى إلى اصابته بكدمات متفرقة في جسده، كما تلقى كدمة قوية في رأسه بسببها ضعفت عيناه وأصبح نظره «شيش بيش». منذ تلك الواقعة، وهو يقتات من إيجار منزل والده الذي يتكون من ثلاثة طوابق يعيش في إحداها وينفق ما يتحصل عليه من الشقتين الآخرتين، ويقضي معظم اليوم متجولا في الشارع مستعينًا بالعصا التي في يده، ويدخل المسجد قبل كل صلاة بساعة أو أكثر ليقرأ آيات القرآن المكتوبة بطريقة «برايل» في الورقات التي لا تفارق يده. بدأت الشمس في البزوغ، وانتهى الحاج محمود من حكايته، وأنهى على حجر الشيشة، وفرغت من كوب الشاي الثاني، وألقيت عليه السلام، ورحلت أفكر في حال هذا الشخص الذي تحولت حياته، ولا أعلم هل تغيرت حياته بسبب الحب؟، أم بسبب عمله الذي قد تشوبه الحرمانية؟، لا استطيع تحديد الإجابة، ولكن قررت أن ألقي عليه السلام في كل مرة أراه فيها، حتى وأنا متأكد أنه لن يرد على التحية.